لكم الصاروخ النووي ولنا الترسانة
يحق لمن يريد العيش بسلام في المنطقة العربية أن يقلق من صفقة جديدة محتملة في مفاوضات فيينا المخصصة لمحاولة إحياء الاتفاق النووي مع إيران. معاهدة 2015 كانت الصفقة الكبرى التي أضافها باراك أوباما إلى سجلّه الفقير للغاية في ما هو أخلاقي وإنساني، بسكوته ــ الفضيحة عن استمرار عمل المسلخ الأسدي. ومعروف أنّ جو بايدن ينافس رئيسه السابق في "الاعتدال" حيال طهران، كذلك فقد سلّم الملف الإيراني لمتفهّمين أميركيين كثر للهواجس العدائية التي تحرّك سياسات حكام طهران وحروبهم. وإن أضيف هذا كله إلى الانسحاب الأميركي التدريجي من مناطق كانت تعتبر أولوية لواشنطن، وتحويل البوصلة نحو الصين وروسيا، بعيداً عن الشرقين الأوسط والأدنى، يصبح توقع تقديم تنازلات غربية لإيران، أمراً فيه الكثير من المنطق، بما أنّ أميركا تدرك، تماماً مثل إسرائيل، أن شعار "إزالة إسرائيل" الذي تصدح به حناجر في طهران، يطيل عمر الدولة العبرية ولا يثير هناك ذلك الفزع المفترض أن تحمله تلك الصيحات. أما الأدوات الإقليمية التي تحارب بها إيران إسرائيل، فحين تنتهي مدة صلاحيتها، ستكون لها أعياد وطنية تمجّد تضحياتها في سبيل تصدير الثورة.
التفاوض في فيينا محصور بالمشروع النووي الإيراني حسب ما تعلنه طهران ولا تنفيه أميركا وبقية أعضاء مجموعة 5+1. هكذا كان الحال قبل توقيع اتفاق 2015. لمن لا تزال ذاكرته نضرة، جدير به تذكّر أنه في تلك الأيام، كانت تخمينات كثيرة تتوقع وجود بنود سرية أو حتى فصول أو ملاحق بين طرفي المعاهدة، تحدّ من مستوى التخريب الإيراني في المنطقة، وتقصّر من مدى الصواريخ البالستية الإيرانية التي تهدد الجيران، وذلك لكي تُرفع العقوبات عن إيران التي تعهدت بإبطاء تخصيب اليورانيوم وبحصر مخزون الماء الثقيل لديها بحدود الـ130 طناً مترياً. لكن كأنّ البنود السرية العتيدة كانت مكتوبة بعكس ما تصوّره الحالمون بالعيش بحرية أكبر مما يقترحه حكام طهران وأدواتهم في المنطقة. ما حصل بعد يوليو/ تموز 2015 كان تغوّلاً بحماسة إيرانية مضاعفة على المنطقة وهذه المرة بمباركة غربية ترجمتها استثمارات بالمليارات: في اليمن، توسعت الحرب الإيرانية ــ الحوثية في الداخل وضد حلفاء أميركا في الخليج من دون خطوط حمراء. في سورية، تُرجم غض الطرف الأميركي عن إيران فتحاً لآخر الفصول الحاسمة في معركة حلب التي يمكن انطلاقاً منها التأريخ للخسارة القاضية للمعارضة السورية. في العراق كان الاستسلام الأميركي كاملاً لمصلحة الإيراني، وهو ما ترجمه ضم مليشيات الحشد الشعبي إلى القوات العراقية المسلحة. أما في لبنان، فاحتفالات حزب الله بالانتصار الإيراني في فيينا همّشت القليل الذي كان متبقياً من حلم بناء دولة يوماً ما.
يردّد المفاوضون الإيرانيون هذه الأيام أنّهم لن يوقفوا تخصيب اليورانيوم حتى تُشطب العقوبات الأميركية، وتعاد المليارات الإيرانية المائة المحتجزة في مصارف أجنبية، وتُقدَّم ضمانات بعدم انسحاب أميركي مستقبلي من الاتفاق على غرار ما فعله دونالد ترامب في ربيع 2018. وما المقابل الذي تعرضه إيران في مقابل كلّ هذا؟ وقف برنامجها النووي، حيث وصل اليوم، عند مرحلة العتبة النووية. كلّ ذلك في وقت يقول مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، إنه ووكالته لا يعلمون أي شيء تقريباً عما يحصل داخل المفاعلات الإيرانية في غفلة عن العالم وبعيداً عن عدسات كاميرات وعيون مراقبي الوكالة الدولية. يفاوض الإيرانيون في فيينا اليوم على تجميد برنامجهم النووي العسكري في مقابل جنّة من المليارات ومن الاستثمارات ومن مبيعات النفط لتمويل بقية أسلحة ترسانتهم النووية. وما نفع إيران بصواريخ ذرية تبتز بها العالم ولن تستخدمها، بينما هي تمتلك ترسانة حافلة من أسلحة نووية أخرى من لحم ودم تُستخدم في كل يوم، وبفعالية أكبر من الصاروخ، وبكلفة أقل منه، وبمدى أطول من مجاله؟ ما نفع إيران بالرؤوس النووية طالما أن لها أصابع بطول حزب الله والحوثيين والحشد وبعض عارضي الخدمات الآخرين في الإقليم؟