لماذا تدعم أنظمة عربية استراتيجية نتنياهو
لا تتعلق المقالة بمؤامرة سرّية، ولا بتفاهم عربي - إسرائيلي ضمني أو رسمي، فرئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، لا يهمّه أن يناقش استراتيجية إسرائيلية مع دولة عربية، أيا كانت هذه الدولة، ولكن الصمت العربي، واستمرار التطبيع بكل أشكاله، ناهيك عن التأييد المعلن للتطبيع ومجمل الإتفاقيات الموقّعة أخيرا، عوامل تصب في رؤية نتنياهو التي تحقق أهدافها يوما بعد آخر. وهنا وجبت الإشارة إلى ثلاث اتفاقيات جديدة، وقّعتها الدولة الصهيونية مع كل من الإمارات والأردن تباعاً. الأولى بدء تعاون ثقافي، والثانية اتفاقية تصدير النفط من الإمارات إلى إسرائيل، والثالثة سماح الأردن والسعودية للطائرات، وبالطبع الإسرائيلية، بعبور أجوائهما لتقصير مسافة السفر بين الخليج وإسرائيل. ولا تسهّل هذه الإتفاقيات التطبيع فحسب، وإنما تصب أيضا في الإطار الأكبر لاستراتيجية نتنياهو، وعمادها إهمال الجانب الفلسطيني والتعامل، سواء من خلال اتفاقياتٍ مع دول الإقليم، العربية وغيرها، بغرض دمج إسرائيل في المنطقة، وتثبيتها "دولة أصيلة"، إلى أن يصبح الفلسطينيون وحدهم في محيط تهيمن عليه إسرائيل.
كل أشكال التطبيع التي تجري نتيجة اتفاقيات سلام كاذب، أو بدون مثل هذه المعاهدات، تصب في صالح المشروع الصهيوني
كل أشكال التطبيع التي تجري نتيجة اتفاقيات سلام كاذب، أو بدون مثل هذه المعاهدات، تصب في صالح المشروع الصهيوني، فليس من الضرورة تأييد اتفاق التحالف الإماراتي الإسرائيلي، ونسخته البحرينية، فإبقاء أي علاقةٍ كانت مع إسرائيل تساهم في تنفيذ ما سميت اتفاقية أبراهام، أو حتى القبول الضمني بها. إذ كيف تستطيع عمّان الإبقاء على رفضها المعلن تصفية القضية الفلسطينية والضم الصهيوني للقدس المحتلة، وهي توقع اتفاقيةً تعجّل باندماج الدولة الصهيونية في المنطقة؟ إضافة إلى أن كل اتفاقيات التطبيع الإقتصادي المبرمة بينها وبين إسرائيل تجعلها مجرد جسر تطبيعياً مع الخليج والعالم العربي، ما يشكل خطرا على الأمن الوطني للأردن وخرقا لسيادته، وتفقده قدرته على التفوه بكلمة "لا" صريحة أو خجولة لأي مخطط إسرائيلي يتهدّدها.
وتعتمد استراتيجية نتنياهو التي كتب عنها الصحفي الإسرائيلي، يهودا ميعاري، على إهمال الفلسطينيين، ورضوخ كل دولة عربية، على حدة، لنوع من العلاقات مع إسرائيل، ما يغير تدريجيا خريطة المنطقة السياسية، فتصبح إسرائيل الأصيلة وفلسطين الدخيلة، ويُحاصر أهلها، فلا يبقى سوى الخنوع والإستسلام. وليست هذه الإستراتيجية جديدة تماما، فقد كان هناك جدل دائما حتى داخل أروقة صناعة القرار الأميركي، إذ كان من الممكن تفكيك مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب والوعي العربيين، مدخلا إلى تطويع الفلسطينيين، واكتمال المشروع الصهيوني تحت شعار "التعايش والسلام".
لم تتخلّ أي من الإدارات الأميركية عن جهودها بالضغط على الدول العربية لتضغط هذه بدورها على الشعب الفلسطيني لقبول الشروط الإسرائيلية
فعلياً ولفترة طويلة، تجاهلت الإدارات المتعاقبة القضية الفلسطينية، بل تجاهلت وجود الفلسطينيين أصلا، وركزت على الأطراف العربية لبعض الأنظمة "احتواء الفلسطينيين"، إلى أن برزت منظمة التحرير الفلسطينية، خصوصا بعد عام 1969، فبدأ المسؤولون الأميركيون يلفظون كلمة "فلسطيني" أو "فلسطينيين" على ألسنتهم مسبوقة بوصف "إرهابي" أو "إرهابيين". وكانت ردة فعل الإدارات الأميركية محاولة للقضاء على منظمة التحرير، ودعم الغزو الإسرائيلي للبنان، وبالتالي حصار بيروت عام 1982، وإخراج المقاومة الفلسطينية، وإبعادها عن دول المواجهة مع العدو الصهيوني. لكن الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، طرح مبادرة لم تعترف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، وطالبت بتمثيل أردني رسمي للفلسطينيين في إطار وفد أردني - فلسطيني مشترك يقوده الأردن، الأمر الذي قوبل يومها برفض فلسطيني. ولم يتغير الموقف الأميركي جوهريا، حتى بعد فتح حوار مع منظمة التحرير، تحت ضغط الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، وحتى بعد اتفاق أوسلو عام 1993، وإقامة علاقات مع المنظمة، إذ، من ناحية، أيقنت الولايات المتحدة أنه لا يمكن إنهاء الصراع إلا بحل ما للمسألة الفلسطينية، ولكن من دون الاعتراف بالحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني. وكان هذا تحولاً، وإن لم يكن جوهريا، لكنه كان اعترافا بأن لا دولة عربية قادرة على تجاوز مركزية القضية الفلسطينية، بما في ذلك الأنظمة المتواطئة ضد الشعب الفلسطيني، لكن الإستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية اعتمدت على تطويع الشعب الفلسطيني، تحت مظلة ما سميت عملية السلام، فيما استمر الإحتلال الصهيوني. واستفادت إسرائيل من اتفاق أوسلو لكسر شبه عزلةٍ عالميةٍ كانت تواجهها، ولإقامة علاقاتٍ مع دول لم تكن تعترف بإسرائيل، واستعادت علاقاتها مع دولٍ كانت قد قطعت علاقتها بعد حرب 1967.
في الوقت نفسه، استمر الجدل في مراكز الأبحاث الأميركية المؤثرة بشأن مدخل دمج إسرائيل في المنطقة، هل هو الدفع نحو اتفاق نهائي بين الفلسطينيين وإسرائيل، تكون نتيجته تطبيعا دائما بين إسرائيل والدول العربية؟ أو تطبيع تدريجي مع الدول العربية يؤدي إلى عزل الفلسطينيين وهزيمتهم؟ كان الرأي، حتى لدى أهم مناصري إسرائيل داخل الإدارات الأميركية، أن السلام مع فلسطين أو على الأقل إبقاء أفق حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية منقوصة السيادة، هو مفتاح كسب الأنظمة والشعوب العربية لقبول إسرائيل في المنطقة.
ينسى الجميع أن للفلسطيني في النهاية الكلمة الفصل، وإن كان ثمن الاستسلام التدريجي باهظاً على الجميع
لم تتخلّ أي من الإدارات الأميركية عن جهودها بالضغط على الدول العربية لتضغط هذه بدورها على الشعب الفلسطيني لقبول الشروط الإسرائيلية، لكن بقي الإعتقاد السائد أن توقيعا فلسطينيا على اتفاق ينهي الصراع، وينهي أيضا المطالب الفلسطينية، هو المفتاح، ويكون ذلك بالتركيز على توفير إطار لمفاوضات إسرائيلية فلسطينية وعربية، فإدماج إسرائيل يتطلب نسف الرواية التاريخية الفلسطينية، وذلك بدفع الفلسطينيين إلى نبذ روايتهم وحقوقهم. وقد تعزّز هذا الرأي، أي التركيز على "عملية سلام" بين إسرائيل والفلسطينيين، بحقيقة أن السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن بقي باردا بين الشعوب، ولم تتغير رؤية معظم الأردنيين والمصريين إلى إسرائيل أنها العدو الرئيسي والإستراتيجي. ومن هنا، ركزت دوائر أميركية يمينية على الخليج لأهمية ثروته، وتوظيفها في الضغط على الأردن والفلسطينيين، بقبول كل المطالب الإسرائيلية، والانتقال من العلاقات السرّية، وحتى العلنية، إلى تطبيع كامل. وهنا خطورة الإتفاق الإماراتي الإسرائيلي، خصوصا مع تسارع الاتفاقيات اللاحقة، والحديث المستمر في الإعلام الإماراتي بسوء عن الفلسطينيين، وترويج الرواية الإسرائيلية أخيرا، بأوامر من صناع القرار. وبذلك، قلب الإتفاق المعادلة، وعزّز استراتيجية نتنياهو بإهمال الفلسطينيين، مستقوياً بإنجازاتٍ أخرى، مثل تشكيل منتدى الغاز في شرق المتوسط الذي وضع إسرائيل في حلفٍ ضم مصر والأردن واليونان وقبرص، وهي دول كانت داعمة تاريخية للفلسطينيين.
نجح نتنياهو الآن بفضل صمت وتواطؤ عربي رسمي مفضوح، وأشكال تطبيع تبرّرها كل دولة على حدة، ومنها من يظن نفسه أكثر التزاما بالقضية الفلسطينية، لأنه لم يصل إلى حد الإنحدار الرسمي الإماراتي، لكنها الطريق نفسها، وينسى الجميع أن للفلسطيني في النهاية الكلمة الفصل، وإن كان ثمن الإستسلام التدريجي باهظاً على الجميع.