لماذا توقّفت السعودية عن دفع "مصروف مصر"؟
يعرف أي متابع، ولو على خفيف، للشأن السياسي المصري والعربي، أن "وجود" النظام المصري الحالي في الحكم، واستمراره واستقراره، وإخضاعه أغلب المصريين، الذين لم يتوقفوا يوما عن "اختراع" وسائل احتجاج يومية، كان رهين قوتين أساسيتين، المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية محلياً، والأنظمة الخليجية، وأبرزها السعودية والإمارات، إقليمياً. وقدّمت الرياض، تحديدا، الدعم الكامل للنظام المصري "المسلّح"، ولم يثنها عن ذلك شيء من سياسات النظام المصري (أو جرائمه). دعمت السعودية عبد الفتاح السيسي بعد الانقلاب العسكري، وبعد مجازر وحشية دامية، كان الوصف الأخفّ لها من منظمات حقوقية دولية "الإفراط في ممارسة العنف"، وبعد اعتقالات موسعة، طاول بعضها أبناء الدولة المصرية نفسها، بل أبناء وقيادات في القوات المسلحة المصرية، وبعد تجاوز نظام السيسي تعريف الدولة بوصفها جهة احتكار العنف إلى ما يدخل في تعريف العصابات والمليشيات المسلحة.
ويعرف، بالضرورة، أي متابع جادّ أن جرائم السيسي القانونية والسياسية رافقتها جرائم اقتصادية موازية، منذ اليوم الأول، بل منذ "المرحلة صفر"، ما بين الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز 2013، وصعود السيسي "الرسمي" إلى السلطة في 8 يونيو/حزيران 2014، وهي مرحلة بدأ فيها حكم السيسي "الفعلي" للبلاد، وعاد فيها رئيس الحكومة ووزراؤه إلى سابق عهدهم أيام حسني مبارك مجرّد موظفين وسكرتارية.
في هذه المرحلة، تحديدا، بدأت المساعدات الخليجية "الرسمية"، والمدفوعة، هذه المرّة، لدعم النظام المصري، وليس إسقاطه. ودخلت مصر في الشهور الستة التالية للانقلاب العسكري 15.9 مليار دولار، موزّعة بين الإمارات التي قدمت 6.9 مليارات دولار منها 4.9 مليارات دولار منحة لا تُردّ، والسعودية التي قدمت خمسة مليارات دولار، منها مليار دولار منحة لا تُردّ، والكويت التي قدمت أربعة مليارات دولار، منها مليار دولار منحة لا تُردّ، ثم مليار دولار كويتية أخرى بديلا للوديعة التي سحبتها قطر. وهو ما رصده أحد أبرز مؤيدي مسار "3 يوليو" (2013)، في بدايته، ورئيس تحرير صحيفة الأهرام، في ذلك الحين، الخبير الاقتصادي أحمد سيد النجار، في مقال مهم (دفع ثمنه) بعنوان "الاقتصاد والإرهاب والحريات"، ونشرته "الأهرام" في 3 فبراير/ شباط 2014، واستعرض فيه النجار خطايا النظام المصري (ونسبها لحكومة حازم الببلاوي طبعا) في التعامل مع هذه المساعدات والهبات، وأبرزها غياب منطق إدارة الأزمة، المتمثّل في ترشيد الواردات والدعم الذي يذهب إلى الأجانب والأثرياء بدون وجه حقّ، وتوجيه التمويل المُتاح لبناء استثمارات إنتاجية جديدة تخلق فرصا للعمل، وتحرّك مضاعف الاستثمار الذي يشكل عاملا جوهريا في أي دورة للنمو والازدهار الاقتصادي. أضف إلى ذلك، استخدام نظام السيسي جانبا من المساعدات الخليجية في تمويل استيراد المواد البترولية التي تقدّم مدعومة للرأسمالية الأجنبية والمحلية التي لا تحظى بمثل هذا الدعم في أيٍّ من الدول التي تنافس مصر في جذب الاستثمارات. علاوة على أن تلك الرأسمالية تبيع إنتاجها بأعلى من الأسعار العالمية، ما يجعل من تقديم الدعم لها أمرا خاليا من المنطقين، الاقتصادي والأخلاقي.
وعليه، الكلام عن مسؤولية المصريين عن انحطاط أحوال بلادهم واستسلامهم وخنوعهم للسلطة الحالية ومقاديرها ومنطقها هو "غسيل سمعة"، غير مُتقن، لداعم السلطة المصرية، الرئيس، في إخضاعها شعبها وإفقاره وتجويعه. ولا معنى هنا للكلام عن دعمٍ بدأ وفق شروط، وتوقف لتجاوزها، إذ لا دعم أصلا، وإنما "عقد عمل" مؤقّت، يلتزم فيه الطرف الأول (السعودية وأخواتها) بدفع راتب مجز (أو مصروف مصر بتعبير السيسي) مقابل التزام الطرف الثاني (السيسي ورجاله) بإفشال ثورة شعبية (قام بها الشعب المتّهم الآن بالاستسلام والخنوع) وتعطيل مسارها الديمقراطي ومنعها من تجاوزها حدودها إلى غيرها، وبيع جزءٍ من التراب المصري إلى السعودية (جزيرتي تيران وصنافير)، والانضمام إلى المحور الرباعي: السعودية والإمارات والبحرين ومصر، ثم نحن الآن في مرحلة تسريح العامل "المرتزق" بعد أدائه مهمته (.).