لماذا سمّموا نيرودا؟
يستبق هذا السؤال قرارا ستُصدِره قاضية في تشيلي في موعدٍ غير معلنٍ بعد، ربما يحسم ما إذا كان حائز جائزة نوبل للآداب في 1971، صاحب الاسم المُستعار، بابلو نيرودا (1904 – 1973) قد قضى في مستشفى في سانتياغو بالسرطان أم مُسمّما. هكذا، يتجاوز العنوان أعلاه احتراسا واجبا من إطلاق حكمٍ هو في الأصل من اختصاصات القضاء، وليس من مشاغل الصحافة، فيقطعُ بأن شاعر تشيلي الأشهر اغتيل مسموما، ولا يتواضع، ولا يأخُذ بمثل الحذر الذي بدا عليه محمود درويش، في إجابته عن سؤال صديقي عبد الصمد بن شريف في مقابلة تلفزيونية في 2005، عمّا إذا يعتقد أن شارون سمَّم ياسر عرفات، إنه ليس متيقّنا مما إذا كان عرفات مات مسموما أم لا، وإنه لا يستطيع أن يتّهم أحدا بوضع السمّ للزعيم الفلسطيني، السمّ بالمعنى الطبّي، غير أنه لا يشكّ في أن شارون قد سمّم حياة عرفات بالحصار الذي شلَّ قدرته وديناميكتيه التي كانت معهودة فيه. لا يطمح صاحب هذه المقالة وعنوانِها إلى أن يؤثّر في قرار القاضية التشيلية، باولو بلازا، وقد تسلّمت تقريرا، الأسبوع الماضي، صاغته مواطنتُها الطبيبة، غلوريا راميريز، التي ترأسّت فريق خبراء من سبع جنسياتٍ، ربما الثالث منذ نبش رفات نيرودا في 2013، وأخذِ ضرسٍ له وعيّناتٍ من جمجمته، فحصهما مختصّون من كندا والدنمارك، قال ابن أخٍ لنيرودا، إنهم انتهوا إلى أن الشاعر جرى حقنُه بجرثومةٍ قاتلة، وإن التقرير الذي اطّلع على خلاصته يؤكّد أن صاحب "القلب الأصفر" مات مُسمَّما، غير أن أخبارا ذكرت أن التقرير يوضح أن الأطباء والخبراء الذين عكفوا على الملفّ العويص لا يتفقون على هذا. وفي كل الأحوال، ليست القاضية المعنيّة مُلزَمةً بالأخذ تماما به، فثمّة شهاداتٌ عديدة وتقارير سابقة تطّلع عليها، أعدّ أحدَها فريقٌ فحَص الرفات في 2013، وانتهى إلى أن السرطان أمات نيرودا.
توصَفُ ميتة الشاعر الشيوعي، شاعر الحب أولا وآخرا، بأنها غامضة، سيّما وأن سكرتيره وسائقه، مانويل أرايا، ظلّ يقول إن الانقلابيين في تشيلي قتلوا نيرودا في المستشفى، بعد أقلّ من أسبوعين على سطوهم على السلطة وإطاحتهم الرئيس سلفادور الليندي، وحكى إن عساكر منعوه في الشارع من شراء دواءٍ لازم للشاعر الذي مات في الليلة نفسها. ويقول إنه هو نفسُه نجا من اغتيالٍ قضى فيه أخوه، وإنهم أيضا قتلوا الكاتب الشخصي للشاعر. واتكاءً على ما ذاع أن نظام الدكتاتور بينوشيه استخدم، في تصفية معارضين له، أسلحةً كيماويةً وبيولوجيةً، ذكر مؤرّخٌ إسباني إن ثمّة "احتمالا كبيرا بأن أطرافا تدخّلت في موت نيرودا"، والحديث عن جرثومةٍ معدّلةٍ جينيا ومميتة، لها اسمٌ علمي، جرى حقنُه بها لتقتله.
لماذا فعلوها، على ما يقطع العنوان أعلاه؟ ما الذي يجعلهم يقتلون الشاعر، المريض بسرطان البروستات؟ هل كان يخيفهم، في معارضته انقلابا عسكريا دمويا؟ كان الشاعر قنصلا وسفيرا في إسبانيا والمكسيك والأرجنتين، وعضوا في مجلس الشيوخ، وقياديا في الحزب الشيوعي، المحظور فترة. وبذلك، ما الذي يضيفه موتُه إليهم، وهو محضُ شاعر سبعيني؟ كان نيرودا ينوي الإقامة في المكسيك، لينشط فيها في معارضة انقلاب بينوشيه، هل هذا مقلقٌ إلى حدّ أن يُعمَد إلى قتل الشاعر، بأمرٍ من الدكتاتور نفسه كما انكتب؟ في الحالة هذه، ليست القصيدة التي يكتبها الشاعر ما تُزعج رئيس سلطة الانقلاب، إنما النشاط المُعارض الذي يُبادر إليه شاعرٌ مشهورٌ، وصاحبُ سلطةٍ معنويةٍ، هل نعتدّ بهذا لنخصِم من مكانة القصيدة ونرفع مقام السياسة؟ شاعرٌ يولي الأيديولوجيا موقعا متقدّما في ثقافته ووعيه والتزامه السياسي، غير أن كل ما يلمسه يتحوّل إلى شعر، كما قال صديقُه ماركيز. كان شاعرا لا تلقى في قصيدته أيّ غبارٍ للسياسة وللأيديولوجيا، ويتألّق. هل كان الدكتاتور يعرف هذا عنه؟
لم يحسموا بعدُ إن مات توت عنخ آمون، عن 19 عاما، قبل أزيد من ثلاثة آلاف سنة، قتلا أم بالملاريا. وما زالت ميتات سعاد حسني وياسر عرفات وهواري بومدين وجمال عبد الناصر وأشرف مروان وصبري البنّا وعبد الحكيم عامر ومحمد أوفقير وسليمان خاطر ووديع حدّاد (وغيرهم) موضع سؤال عمّا إذا كانت طبيعيةً أم بتدبير مدبّرين. وميتة بابلو نيرودا بالتسميم أم بالسرطان لن تحسمها القاضية باولو بلازا. .. قال نيرودا في قصيدة ترجمها بدر شاكر السياب: الموتُ في السّرر الصغيرة/ في الوسائد البيضاء، في الأغطية السود/ إنه يقبع متربّصا.
تُراه موتٌ ما تربّص بالشاعر في سريرِه في المشفى؟ ربما. أما العنوانُ أعلاه فمحضُ تفاصحٍ ليس إلا.