لماذا صنعتُم هذا بنجاة الصغيرة؟
كنّا آلافاً هناك، نقعُدُ ونقف ونصفّق، مبتهجين، على مدرّجات المسرح الجنوبي في جرش، صيف 1985، وقدّامنا نجاة الصغيرة، بطلَّتها الدافئة، بقامتها وأناقتها إياهما، بثوبِها الرصاصي اللون، المضيءِ بلمعانٍ خفيف، وبقِرطيها الأزرقيْن، تغنّي لحيدر محمود وجميل العاص "عمّان"، ولحسين السيد وبليغ حمدي "الطير المسافر"، ولعبد الرحمن الأبنودي ومحمد الموجي "عيون القلب"، وأغنيات أخرى من بدائع ما حضرَت به صاحبةَ صوتٍ ذهبيٍّ عن حقّ. أتذكّرها وِقفتَها تلك، وراءََها الفرقة الماسيّة، يقودها أحمد فؤاد حسن، وشدوُ الصوتُ المجلّي في الفضاء المكشوف يحلّق ما أمكن له أن يفعل، ونجماتٌ في السماء نراها كأنها تُشاركنا الوداعة التي يُشيعها صوتُ نجاة فينا.
كنتُ هناك، ذلك الفتى الذي أتمّ عشرين عاماً قبل شهور، سعيداً بالفرصة الثمينة التي يسّرت لي أن أسمع نجاة، أشاهِدُها موفورة النضارة وريّانة. يا لبهاء تلك السهرية البعيدة في جرش، لا تُفارقني وأنا أرى نجاة في السادسة والثمانين عاماً في مشهد تكريمٍ لها في الرياض، قبل أيام، ثم أراني أسألُ ما يشبه سؤال الكاتبة عبلة الرويني، إن كان ظهورُ نجاة، كما شوهدت، تكريماً لها حقّاً أم إساءةً إليها؟ مع كلّ أسباب الضيق، وربما الحنق، من الذي صار على ذلك المسرح في عاصمة المملكة، أقولُ إن الذين استقدَموا الفنانة، في حالِها الذي رأينا، في شيخوخةٍ مُرهَقةٍ، لا تمكّنها من نطقِ كلمة شكر، ولا أن تقفَ من دون مساعدة، ولا أن تحملَ درع التكريم، إنما أرادوا تكريمََها المستحقّ، وإزجاء تحيّةٍ لها، غير أنهم لم يستشعروا الأذى الذي سيرُجُّ صورة السيدة التي خُلع عليها في زمنٍ مضى لقب "قيثارة الفن"، وسمّاها "الضوءَ المسموع" كامل الشناوي (هل أحبّها من طرفٍ واحدٍ إبّان صباها؟)، فجاءَ من بالغ الطبيعيّ أن يضجّ في كثيرٍ من الإعلام المصري، وفي وسائل التواصل، مثل سؤالنا، عبلة وأنا، حتى انحرفَ الحالُ إلى مجادلاتٍ خاضها غيرُ مذيعٍ في القاهرة، وقد افترض أحدُهم أنها لم تكن لقطةً لنجاة في مسرح التكريم، وإنما للسعودية والرياض، ثم ردّ نافذٌ في المملكة، ألمح إلى أن تكريم بلده نجاة كأنما جاء بسبب عدم تكريمها من أحدٍ في بلدها، في خريف عمرها.
ولكن، لم تُجبَِر الفنانة التي كرّمها جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة والملك الحسين (وغيرهم) على القدوم إلى المهرجان، واسمُه "جوي أووردز" (هل كتبتُه صحيحا؟)، وهي في حالتها البدنية التي لا تسرّ محبّي أغانيها. وقد أفيد إنهم هناك وافقوا على كل طلباتها، الإطلالة دقائق، مسنودةً، واستلام الدرع (عدم استلامه على الأصحّ) والغناء "بلاي باك"، مع حاملٍ حديديٍّ طويلٍ وثقيلٍ تُمسك به يداها، وهي قدّام الجمهور الذي يستمع إلى "عيون القلب". ما الذي حمل السيّدة، وهي من نجمات زمنٍ ذهبيٍّ للأغنية العربية الرائقة، على هذا الظهور المفاجئ، وبهذا الحال، بعد غياب نحو 20 عاما، عن الناس والإعلام؟ لا أعرف طبعا، ولا غيري يعرِف، فالأمرُ متعلقٌ بحواشي النفس البشرية وأغوارها. ولكنّ سؤالاً ليس ما يمنع من إشهارِه إلى الذين أرادوا، صادقين على الأرجح، تكريم السيّدة، وفي الوقت نفسه، تظهير الرياض عاصمة الفنّانين العرب، وتكريمهم في مهرجاناتٍ لم يعُد في الوسع عدّها، ولو في وقت غزّة الراهن، فقد كان في وُسعهم حماية صاحبة الصوت الذي تطرّف محمّد عبد الوهاب في حرصه عليه منذ صباها الأول، حمايتُها من غوايات النفس وضعفها، فيكرّموها بكيفيةٍ أخرى، فلا يجعلونا نتذكّر زيارة ماكرون فيروز في منزلها في بلدة الرابية (في لبنان)، ولا تكريم مهرجان دبي السينمائي فاتن حمامة في منزلها في القاهرة، ولا يجعلونا نسأل عن الذي جعل عادل إمام يوفِد ابنيْه ليتسلّما درع تكريمه، مُؤثِرا ألا يُشاهده الجمهور وقد بانت أخاديد الزمن عليه (83 عاما)، فيما جاءت نجاة، وبدَت في غير المظهر الذي نحبّه لها، وقد بانَت عليها تصاريفُ السنين.
قال عبد الرحمن الأبنودي، مرّة، إن نجاة الصغيرة شديدة القلق في اختياراتها الغنائية، وتُدقّق كثيرا في مفردات أغانيها، وتُفرط في التحسّب من كل صدىً وأثر، وإنها لمّا سمعت منه قصيدته "عيون القلب" جادلتْه في غير مفردة؟ وبعد تلحين الأغنية، ظلّت قلقةً منها، فلم تُفرج عنها إلا بعد 11 عاما على تسجيلها أول مرّة... لماذا لم تفعل شيئاً مثل هذا، وتدقّق أكثر وأكثر، وهي قادمةٌ إلى ما فوجئنا به منها؟ وقبل هذا وبعده: لماذا صنعتُم ما صنعتُم بسيّدةٍ كانت مضيئةً وهي تغنّي قدّامي قبل 39 عاماً في جرش.