لماذا عبد الباسط الساروت؟
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
مرّت، في التاسع من شهر يونيو/ حزيران الجاري، الذكرى السنويّة الثالثة على استشهاد حارس فريق الكرامة الحمصي، عبد الباسط الساروت، الذي يلقّبه السوريون الثائرون على نظام حكم الأسد حارس الثورة، ثورة الكرامة. وهذه المقالة تزعمُ أنها تجيبُ على بعضٍ من جوانب السؤال المعنونة به، لماذا الساروت؟
يعيشُ البشرُ ضمن جماعات، ذلك حالهم منذ مئات آلاف السنين، حسب ما تؤكّده الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة. ففي إجابة على سؤالٍ عن حال التضامن البشري، تقول عالمة متخصصة في هذا المجال: يمكننا أن نخمّن بدء تشكّل المجتمعات البشرية، من خلال معرفة أوّل حالةٍ جرى فيها شفاء عظم مكسور لإنسان. فكسر أيّ طرف في عالم الحيوان يعني هلاك الكائن هذا بلا أدنى شك، فهو لن يكون قادراً على الدفاع عن نفسه أمام الضواري، كما لن يكون قادراً على إعالة نفسه. أمّا لو قُيّضت له مجموعة تقوم بالمهمتين، فإنّه سينجو.
تصوغ الجماعاتُ عهودها وعقودها لتنظيم حياة الأفراد فيها وضمنها، كما تطوّر مجموعة من القواعد لتتعامل فيما بينها، على افتراضِ الحربِ مبدأً والسلمِ استثناءً كما يقول توماس هوبز، أو على افتراض العكس، كما يقول إيمانويل كانط، حيث يكون التطاحن والصراع بين البشر، عارضاً في تاريخهم القائم على التعاون والتكامل. وفي مراحل لاحقة من تحوّل الجماعات إلى كياناتٍ سياسية، أي عندما بدأت تأخذ شكل الدول والإمبراطوريات، وعندما بدأت تصوغ اجتماعها كأمم مختلفة عن بعضها بعضا، بات من الطبيعي صناعة الهُويّة المميزة لكل أمّة أو شعبٍ في دولة.
تُنتج الشعوب بأشكال متفاوتة سرديات لتعزيز بناء منظوماتها السياسية والاجتماعية، ولا يُشترط في هذه السرديات أن تكون حقائق مثبتة
والدول تقوم على المؤسسات، منذ اللحظة التي اكتشف فيها البشر قوّة السحر لضبط التوقعات، إلى الوقت الراهن حيث يتمّ تركيز السلطة أو توزيعها حسب طبيعة نظام الحكم بين الاستبداد والدكتاتورية أو الديمقراطية والتشاركية، كانت المؤسّسات الحامل الحقيقي لمُنتج الدولة، أو لكيانها الذي فيه تُصنعُ الأمّة. وحتى يتسنّى للدول بناءُ مؤسساتها، تستخدم الرموز لشدّ أواصر الربط بين أفراد الشعب، فيكون لها علمٌ ونشيدٌ وطني، وتفرض نمطاً معيناً من الخدمة العسكرية الذي يكون إجبارياً في أحيانٍ كثيرة، كما تفرض غالباً سياسة تعليمية وإعلامية، وتطوّر منظومة ثقافية وفنية لتصنع من خلالها وعي الأفراد والجماعات فيها.
وفي سيرورة بناء الأمم والدول، تخلق الشعوب بأشكال متفاوتة سرديات لتعزيز بناء منظوماتها السياسية والاجتماعية، ولا يُشترط في هذه السرديات أن تكون حقائق مثبتة، كما لا يُشترط فيها أن تكون على الدوام صحيحةً أو نقيّة أو واقعية، فيدخل الغموض والإبهامُ في صناعة هذه السرديات، لتصبح أقرب إلى الأساطير في أغلب الأحيان، إن لم يكن في جميعها. قد تبدأ هذه الأسطرة بعد حادثة استثنائية، كالفوز في معركة ما كانت الهزيمة عنوانها الطبيعي، نظراً إلى عدم تكافؤ موازين القوى، أو إثر ظهور شخصٍ ما غيّر مسار الجماعة، قائداً كانَ أم شاعراً أم فيلسوفاً أم حتى نبيّاً، أو حتى في كارثةٍ ما حاقت بالجماعة فأرهقتها أو صقلتها أو غيّرت في جوهرها.
كي تنجح الأساطير في البقاء عبر آلاف السنين، فإنّها تكثّف الحكمة البشرية من خلال صناعة الرموز، والأخيرة قد تكون أماكن أو وقائع أو أشخاصاً، وهي تصبح، مع الزمن، اختصاراً لوعي جمعيّ ما، يبني ويعزز السرديّة الخاصّة بهذه الجماعة التي قد تكون شعباً من الشعوب، أو أمّة من الأمم يجمعها إطار الدولة، فيتبادر إلى الذهن فوراً مجمل تاريخ النضال عند ذكر هذا الرمز. تخلّد الجماعات رموزها، إذن، لتحفظ ذاتها هي من الضياع والاندثار، أو من التشتت والتبعثر، فيصبح الهدفُ وسيلة، وتتحوّل الأداة إلى غاية، وتتبدّل الأدوار لإتمام المهمّة.
الساروت حلمُ الدولة العادلة، حلمُ الانتقال إلى ملكوت الكرامة الإنسانية، الساروت شعلة بالنسبة لفئات كثيرة يجب ألا تنطفئ
هكذا صنع السوريون والسوريات رموزهم، فأسطروا منهم بعضها من خلال تركيز المعنى وتأبيد اللحظة الفارقة. مع الثورة، كان لا بدّ من سرديّة تحمّل عبء مواجهة فعل القتل والإذلال الممنهجيْن اللذين مارستهما أجهزة الدولة ضدّ الشعب الثائر، فبدل أن تساعد الدولة على صناعة الرموز وأسطرتها، على العكس شوهتها وقمعتها وحاولت وأدها في المهد، لتخدم هدف نظام الحكم المسيطر على الدولة ومؤسساتها.
والشهيد عبد الباسط الساروت رمزٌ لفئاتٍ كثيرةٍ، واسعةٍ وكبيرةٍ من السوريات والسوريين الثائرين على نظام الاستبداد، وقد وجدوا في مسيرة حياته تلخيصاً لمسيرة ثورتهم، بانطلاقتها على يد الجيل الشاب، بعد أن هزمَ الاستبدادُ آباءهم وأمهاتهم، وصمودها فترة طويلة نسبياً ضمن حراكٍ مدنيٍ غلب عليه في الجوهر الطابع السلمي، ثم بحمل أبنائها السلاح للدفاع عن أنفسهم، وبانشقاق كثيرين منهم عن مؤسسة القمع الوحشية، أي الجيش وأجهزة الأمن، وبعد ذلك بتشتّتها وضياعها من دون قيادة وطنية سياسية قادرة على استثمار إنجازاتها، وفي تطرّف بعض أبنائها وحيادهم عن الطريق القويم، ثم في ذبول أغصانها وتساقط أوراقها لتُصبح رهينة بأيدي الدول والمحاور المختلفة.
يرى هؤلاء في الساروت ثورتهم، في شجاعتها وعنفوانها، في انتصاراتها وانكساراتها، في تفوّق مبدأها الأخلاقي وتعثّر مسيرتها العملية، يرون فيه أيضاً استمراراً للعهد الذي ما زال في قلوبهم قابضين عليه كما الجمر، لكنّهم لا يتركونه. الساروت هو حلمُ الدولة العادلة، حلمُ الانتقال إلى ملكوت الكرامة الإنسانية، الساروت شعلة بالنسبة لهم يجب ألا تنطفئ، ولن تنطفئ، فهو أسطورتهم التي تمثلهم، وهو الإجابة باللحم الحيّ المحترق، وبالدم الطاهر النازف على سؤالٍ كبيرٍ، لماذا الساروت؟
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.