لماذا يعنينا التوتر حول تايوان؟
وكأنه لا يكفي البشرية البلايا والرزايا التي تحلّ عليها واحدةً تلو أخرى، بحيث تتسابق دولٌ كبرى إلى مزيد من الصراعات والتنافس على النفوذ الجيوسياسي، في حين يدفع العالم كله الثمن. لم تستفق البشرية بعد من تداعيات جائحة كورونا التي خلخلت أسس الحياة وأنماطها في كل المناحي. ولم تنته بعد الأزمة الاقتصادية العالمية وارتفاع نسب التضخم. ولم تؤت جهود إعادة تصدير القمح والحبوب والزيوت من أوكرانيا وروسيا أكلها بعد لتجنّب مجاعة واسعة في أجزاء كثيرة من العالم، دع عنك الحروب الإقليمية والمحلية هنا وهناك، والجفاف والفقر والقمع والفساد .. إلخ. لم يتحقق أيٌّ من ذلك، حتى أدخلتنا الولايات المتحدة والصين في خضم أزمة جديدة قد تنسف ما تبقى من استقرار وأمن دوليين. أزمة تايوان ليست محصورة بين قوتين عظميين، وأي تصعيد بسببها ستترتب عليه نتائج وخيمة على الإنسانية جمعاء. وإذا ابتغينا الحقيقة، فإنه لا واشنطن، ولا بكين، ولا أي دولة كبرى تملك أسباب القوة، يعنيها الثمن الذي سيدفعه الأبرياء مقابل تحقيق مصالحهم الاستراتيجية العدوانية.
بعيداً الآن عن تفاصيل قضية تايوان وخلفياتها، وهي التي تصاعد التوتر بشأنها بعد زيارة قامت بها إلى الجزيرة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بلوسي، مطلع شهر أغسطس/ آب الجاري، فإن ما يعنينا هنا أن نعرف مدى أهمية بحر الصين الجنوبي للتجارة العالمية. وتعد تايوان نقطة الالتقاء بين بحريِّ الصين الجنوبي والشرقي، وتحديداً عبر مضيق تايوان، بطول 180 كيلومتراً وعرض 130 كيلومتراً في أضيق جزء منه. حسب تقديرات "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية" (أونكتاد) فإن 80% من التجارة العالمية من حيث الحجم، و70% من حيث القيمة، تُنقل عن طريق البحر. 60% من تلك التجارة البحرية تمرّ عبر آسيا، في حين تبلغ حصة بحر الصين الجنوبي ما يقدر بثلث الشحن العالمي. وبلغة الأرقام، فإن ما قيمته 5.3 تريليونات دولار من البضائع تمرّ سنوياً عبر بحر الصين الجنوبي، منها 1.2 تريليون دولار هي حصة التداول مع الولايات المتحدة، في حين تعتمد الصين وتايوان واليابان وكوريا الجنوبية عليه بشكل كبير، وصولاً إلى المحيطين الهادئ والهندي.
لا يوجد التزام أميركي بالتدخل عسكرياً إذا هاجمت الصين تايوان، مع إبقاء الأمر مفتوحاً
إذن، لا غرو أن تتنافس كل من الولايات المتحدة، القوة الاقتصادية العالمية الأولى، مع الصين، القوة الاقتصادية العالمية الثانية، على النفوذ في منطقة المحيطين، الهادئ والهندي، وفي القلب منها بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، خصوصاً إذا علمت إن أميركا تعيش هاجس احتمالية تجاوز الصين لها اقتصادياً في السنوات القليلة المقبلة، وإذا علمت، أيضاً، أن 60% من تجارة الصين تجرى عن طريق البحر. بمعنى، دعك من كل الشعارات الأميركية الفارغة التي تتباكى على ديمقراطية تايوان ذات الثلاث وعشرين مليون نسمة، وتريد الصين ضمّها، ولو بالقوة، تحت حكمها الشيوعي الاستبدادي، وبالتالي وأد ديمقراطيتها. أيضاً، دعك من وعود بكين والضمانات المزعومة التي تقترحها على تايوان من احترام خصوصيتها، في حال قبلت بالوحدة سلماً مع الوطن الأم، ضمن إطار "صين واحدة، نظامان مختلفان"، وما هونغ كونغ إلا شاهد حيّ على عدم المصداقية الصينية.
تقوم السياسة الأميركية الرسمية، منذ عام 1979، على الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية "حكومة شرعية وحيدة للصين"، وعلى أن تايوان (جمهورية الصين) جزء منها. لكن الكونغرس سنّ في العام نفسه "قانون العلاقات مع تايوان"، ووقعه الرئيس جيمي كارتر. صحيح أن القانون حافظ على الاعتراف الأميركي بالصين الشعبية، ولم ينشئ علاقات ديبلوماسية كاملة مع تايوان، ولكنه أبقى على "علاقات الأمر الواقع" معها. أيضاً، صحيحٌ أن القانون واضح في أنه لا يوجد التزام أميركي بالتدخل عسكرياً إذا هاجمت الصين تايوان، مع إبقاء الأمر مفتوحاً (سياسة الغموض الاستراتيجي)، إلا أنه ينصّ على أن "الولايات المتحدة ستوفر لتايوان المواد والخدمات الدفاعية بالكمية التي قد تكون ضرورية لتمكينها من الاحتفاظ بقدرات كافية للدفاع عن النفس". كما أن الولايات المتحدة "ستحافظ على القدرة لمقاومة أي لجوء إلى القوة أو غيره من أشكال الإكراه التي من شأنها أن تعرّض الأمن أو النظام الاجتماعي أو الاقتصادي لشعب تايوان للخطر".
الصين مصنع العالم المعتمد على كثير من منتجاتها وسلاسل توريدها
المقصود واضح هنا. بالنسبة لواشنطن، تايوان بمثابة "مسمار جحا" للإبقاء على قدرتها على التحرّش بالصين واستنزافها. هذا بالضبط ما فعلته مع روسيا في عدة محطات، وعبر عدة دول، آخرها أوكرانيا. لكن الصين ليست روسيا، فحتى لو استطاعت الولايات المتحدة استنزافها في أي عدوان عسكري محتمل على تايوان، فإن تداعيات ذلك دولياً ستكون كارثية. الصين هي ثاني أكبر اقتصاد عالمي، وهي مصنع العالم المعتمد على كثير من منتجاتها وسلاسل توريدها. هذا لا يعني أن الصين ليست قوة معتدية وغاشمة، بل هي لا تقلّ إمبريالية في فضاء شرق آسيا الجيوستراتيجي، من حيث زعمها السيادة على المياه الإقليمية لغيرها من الدول في محيط بحر الصين الجنوبي، دع عنك سياسات الإكراه الاقتصادية التي تتبعها عالمياً. وبالمناسبة، لم تحكم الحكومة الشيوعية في بكين جزيرة تايوان يوماً منذ انتهاء الحرب الأهلية في الصين، والتي انتهت بانتصار الشيوعيين عام 1949، وهروب القوميين إلى الجزيرة. تفاصيل كثيرة قد يتوهم بعضهم أنها لا تهم البشرية جمعاء، إلا أن الحقيقة، وبناء على ما سبق، أننا قد نكون على موعد مع كارثة أكبر مما شهدناه في السنوات الأخيرة، وذلك إذا ما صدقت توقعات الاستخبارات الأميركية بأن الصين قد تحاول غزو تايوان خلال عامين.