لمّا "الحلو" غنّى
غنّى الفنان المصري الوقور، محمد الحلو، للجمهور في السعودية، فقرّر، من باب المجاملة، أن يحشُر اسم السعودية في أغنيةٍ عن الاسكندرية. وهنا اشتعلت العركة، واستحضر كلّ طرفٍ كمياتٍ من حطب الشوفينية، في تكرارٍ سخيفٍ لمواقف عبّرت خلال السنوات القليلة الفائتة.
من باب الحيّ المعاد حدّ الملل، التذكير بأغنياتٍ لفنانين عرب في حبّ بلدانٍ عربيةٍ غير بلدانهم، إذ ثمّة أعمال أعدّت خُصيصًا في محطّات تاريخية بعينها، قدّمها مطربون مصريون عن عواصم عربية. أيضاً، فيروز العظيمة غنّت لمعظم المدن العربية، من دون أن يستثير ذلك أيّ نعرات قطرية أو شوفينية، فما الذي حدث للذات العربية أخيرا حتى أصبحت قابلة للانقياد إلى خناقات من هذا النوع؟.
في موضوع محمد الحلو تحديدًا، ربما كان مبعث الغضب والسخرية أنه استبدل السعودية بالإسكندرية في أغنية عن الأخيرة، بينما كان بإمكانه أن يصنع أغنية جديدة كاملة عن السعودية يضع فيها كلّ مشاعره تجاهها. هكذا يردّد الغاضبون من الفنان، غير أنّ المؤكّد أنّ تغييرًا كبيرًا طرأ على الإنسان العربي، بحيث صار أكثر انغلاقًا على الذات، سريع الغضب إن تكلم عربيٌّ آخر عن بلدٍ عربيٍّ شقيق.
يسترعي الانتباه في موضوع محمد الحلو أنّ قطاعًا من الجمهور المصري ذاته الذي هتف بسعودية جزيرتي تيران وصنافير، واعتبر أنّ المتظاهرين ضدّ نقل ملكيتها للسعودية معدومي الوطنية والقومية، تجده في طليعة مهاجمي محمد الحلو ولعنِه، بوصفه مفرّطًا في تراثه الغنائي، مع عدم تجاهل أنّ قطاعات أخرى من الجمهور أسّست انتقادها له على اعتبارات أخرى لها وجاهتها.
على أنّ اللوم لا يمكن في أي حال أن يقع على المواطن العربي هنا، بالنظر إلى أنّ فكرة الانتماء القومي نفسها تتعرّض لضرباتٍ عنيفةٍ على مدار السنوات العشر الأخيرة، في سياق عام من الطغيان الحاكم الذي يكثّف خطاب التفزيع والتخويف من تربّص ومؤامرات الخارج الموّجه للجمهور المستهدَف بالإخضاع، حتى لو كان هذا الخارج عربيًا وشقيقًا. كما أنّ الاستبداد نجح، في بداياته، في الاستحواذ على انفعالات القطاع الأوسع من الجمهور وصادرها ووظّفها لحسابه، تغنّي لهذا البلد العربي وتلعن ذاك، بحسب ما يتم توجيهها من أعلى، تبعًا لاعتبارات المصلحة والربح، وليس الانتماء القومي والقيمي.
هذا الأمر، في ظنّي، أوجد كما قلت كثيرًا ما يمكن تسميته "التقوقع الوطني"، والذي هو من ضروب الوطنية الزائفة المنغلقة المفرطة في حساسيتها تجاه من هم خارج حدودها، بالمعنى الجغرافي المباشر، أو بمعنى مخالفة منظومة المعايير الاستبدادية التي فرضها الحكّام الطغاة لقياس حجم الانتماء ودرجته.
لكنه، من ناحية أخرى، أوجد انصرافًا لافتًا عن هموم البلدان العربية وقضاياها، وهو انصرافٌ يصل إلى حدّ بلادة الانفعال للجماهير بشأن كوارث وعذابات تعيش فيها عواصم عربية، يبدو أنّها سقطت من حسابات النظام الرسمي العربي، كما هو الحال في المأساة اللبنانية التي صارت مُزمنة، وبدرجة أوضح في تراجيديا انتحار الدولة السودانية في شهرها الرابع، من دون أن يكون لدى العرب موقفٌ أبعد من الفرجة من بعيد مع مصمصة الشفاه، ثمّ إشعال عركة أخرى شوفينية يشتبك حولها الجمهور العربي، وتقوم على الاشتباك حول النظم الجمهورية وتلك الملكية أو العائلية. وبالضرورة، لا يهمل مديرو هذا النوع من الاشتباكات السخرية من ثورات الشعوب الغاضبة، واعتبارها أصل الشرور التي لحقت بالدول العربية.
الشاهد أيضًا أنّ هذه الانفعالات الشوفينية المنفلتة تختفي عندما تكون فلسطين حاضرةً في السياسة العربية وفي الإعلام العربي. أما حين يكون ثمّة انصراف عن القضية الفلسطينية أو وضعها في قاع جدول الأولويات، فإنّه يتم تعبئة مساحات الفراغ الحضاري بمعارك العصبيات القُطرية من كلّ حجم ونوع، وهذا حاصلٌ، للأسف، منذ تغيّر توصيف الحكاية من قضية العرب المركزية والصراع العربي الصهيوني إلى مجرّد نزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين يتفرّج عليه العرب من بعيد.