لمّا حاوَرْتُ مُراد هوفمان
أمران تبدأ بهما هذه المقالة: الأول، اعتذار صاحبِها إلى قرّائها، بسبب فائض الشخصيّ فيها، الأمر غير المستحسَن غالبا، والمرذول أحيانا، في تعاليق كتّاب الصحافة. والثاني، إيضاحان، أنّ من المعهود أن نُحاور، نحن الصحافيين، مشاهيرَ ومسؤولين وشخصياتٍ وصنّاع قرارٍ وأصحاب خبراتٍ وتجارب، وأنني، في سنوات عملي في عدّة صحف عربية، حاورتُ من هؤلاء عددا محدودا. والإيضاح الثاني أن إعادة بثّ تلفزيون العربي، أخيرا، الحلقة من برنامجه الحسن "مذكّرات" عن الألماني مُراد ولفرد هوفمان، مناسبةُ ما استثار فيّ تذكّر محاورتي هذا الرجل الرائق قبل 30 عاما، إبّان كان سفيرا لبلاده في الرباط، ونشَرتْها صحيفة الاتحاد الإماراتية في نحو صفحة (6 /2 /1993، في ملحقٍ يومي في رمضان). وورّطتني الحلقة التلفزيونية في الرغبة بأن أٌفْضي بهذا الإيجاز هنا عن تلك المقابلة، غير التاريخية طبعا، وإنْ لها أهميّتها شديدة الخصوصية لديّ شخصيا.
رحل المفكّر والداعية المسلم، هوفمان، قبل ثلاثة أعوام عن 89 عاما. اعتنقَ الإسلام في 1980 وسمّى نفسَه مُراد. عمل دبلوماسيا في سفارات ألمانيا في غير بلدٍ، ثم سفيرا في الجزائر ثم في المغرب، ثم تفرّغ، منذ 1995 للكتابة والمساهمات الثقافية، وللدفاع عن الإسلام والمسلمين. تُرجمت له إلى العربية خمسة كتب (حسبما أعلم)، أحدُها كتاب مذكّراتٍ اعتمد عليه معدّو الحلقة التلفزيونية (آثروا صيغة كتابة سطورٍ منها بالألمانية، من دون أي إشارةٍ إلى الترجمة العربية). ومنها كتابُه الذي أحدَث صخَبا في ألمانيا والغرب، واسمُه بترجمته العربية "الإسلام كبديل" (أُفضِّل "الإسلام بديلا"). ولمّا لم تكن أيٌّ من مؤلّفات الرجل قد صدرَت بالعربية، لمّا هاتفتُ السفارة من أجل موعدٍ للقاء سعادة السفير في الرباط التي كنتُ أقيم فيها، ولمّا لم أكُن (وما زلتُ) لا أعرف الألمانية، كان طبيعيّا أن أذهب إلى المقابلة وليس في مداركي غير ما صادفْته عنه سفيرا مُسلما، له وجهاتُ نظرٍ طيّبةٌ في الإسلام والمسلمين، معجبا بثورة الجزائر، واجَه، بعد إسلامه، عاصفةً من منتقديه في بلاده الذين اتهموه بأنه ضد المرأة.
آثرتُ أن لا أهيئ أسئلةً مكتوبةً على الأوراق التي معي (لم أستخدم المسجّل)، وأترُك حواري مع السفير كيفما اتفق، لأصوغه ليس على هيئة سؤالٍ وجواب، بل أن أبنيه سرْدا مُسترسلا، وأكتب في سطورِه ما قد يأتي إلى خواطري من انطباعاتٍ (تُراني أردتُ أن لا أكون تقليديّا؟ لا أتذكّر. ولكن ربما). وهذا ما كان، ونُشرت المادّة كما كتبتُها بالضبط. بدأتُها بالإتيان على تفتيشٍ خفيفٍ في باب السفارة، ثم صعودي إلى طابقٍ علويٍّ حيث مكتب السفير، وختمتُها بانصرافي، بعد ساعةٍ ونصف الساعة (بإنكليزيّتي وعربيّته الخفيفتيْن)، ومرافقة السفير نفسِه لي إلى باب مبنى السفارة في الطابق السفلي. وهذا من جميل لُطفِه (كما كتبتُ). وأرجّح هنا، والله أعلم، أني زهوْت بهذا، كيف لا ومن يودّعني بالباب، أنا الذي في ثالث سنوات ثلاثينيّاتي، سفيرُ بلدٍ يستحقّ أن يكون عضوا دائما في مجلس الأمن. ثم أرسلَت الصحيفة في أبوظبي إلى مكتبها في الرباط نُسخا من العدد الذي نُشرت فيه المقابلة، فوضعتُ واحدةً في مغلّف، ثم تركتُها للسفير عند موظف الاستقبال في باب السفارة. ولمّا صادفتُه، بعد أيام، في حفلٍ في منزل سفير عربيٍّ، سألتُه إنْ قرأ المقابلة، فضاعفَت إجابتُه من ذلك الزهو الذي كنتُ عليه قبل أيام، لم يُخبرني فقط بأنه قرَأها، بل شكرني لإخلاصي في دقّة ما نقلتُ عنه (you were faithful).
أحرز الدبلوماسي المثقّف قسطا من الشهرة في العالم العربي بعد مغادرته وظيفته الدبلوماسية (عاميْن بعد مقابلتنا)، وجرى تكريمُه بجوائز عربيةٍ رفيعة. وأظنّ أن في قراءتنا، نحن العرب، كتبَه، نفعا حسنا، سيما وأنه حاجَج فيها منتقدي الإسلام. .. أجابني على سؤالٍ عن حاضر الإسلام في العالم (هكذا!)، إنه ليس جيّدا، فالأمة الإسلامية مقسّمة، وتغيب في البلدان الإسلامية ديمقراطيةٌ كافية، ومن دون ديمقراطيةٍ لن تُحمى حقوق المرأة المسلمة، ولن يكون هناك ازدهارٌ اقتصادي، ولن تتوفّر حرية التفكير والاعتقاد. وبدون هذا كله، ستكون التربية في مستوى متدنٍّ، وسيكون التدريس والتعليم تقليديا بحتا. ونتيجة ذلك، لن يستطيع الإسلام أن يُزاحم، وينافس في عالم التكنولوجيا الذي يدور كالعجلة.
... أعتذر ثانيةً لقرّاء السطور أعلاه من الشخصانيّ الظاهر فيها، ولكنها حلقةً من برنامجٍ على شاشة "العربي" أيقظت فيّ ذكرى من ثلاثة عقود. رحم الله مراد هوفمان.