لمّا خذَلني صَن يات صِن
كنّا هناك، في تَراس مطعمٍ بهيج، في جوهاي، جنوب الصين (ثلاث ساعات ونصف طيران من بكّين)، بسمة النسور ومُحسِن فرجاني ومنصورة عزّ الدين وأنا. كان اللحم المشويّ على مائدة العشاء الطويلة مُطمِئناً (زاولْنا هناك حذَراً كثيراً). نسمع نانسي عجرم (نعم نانسي عجرم) تغنّي، وقد أطلق المطعم صوتها عالياً، ونُدردش أربعُتنا ومع مرافقينا ومضيفينا، سيّما مسؤولة العلاقات العامّة في مركز مويان، ديزي، والمترجم محبّ الموسيقى العربية، طالب الدراسات الإسلامية، هان يو (عزّت اسمه المستعار). وقبيْل أن نغادر، سألتْنا ديزي إن كنّا نُفضّل غداً الذهاب إلى الشاطئ أم إلى متحف صَن يات صِن. ... وقعَ الاسمُ على مسامعي غريباً، فسألتُ عمّن يكون صَن، فرماني مُحسن، وهو أستاذ اللغة الصينية وآدابها في جامعة عين شمس، ويحمل الدكتوراه من إحدى جامعات بكّين، بنظرةٍ فيها بعضُ استغراب، فسألني إن كنتُ حقّاً لا أعرف صَن يات صِن، أجبتُه، وقد غشيني شيءٌ من الحرج، بأنّني فعلاً لا أعرفه، فردّ عليّ بأن لعبّاس العقّاد كتاباً عنه. وهنا أفزعني ما أنا عليه من جهلٍ لا أرضاه لنفسي، إذ أزعُم إنّني على معرفةٍ بالعقّاد وكتبِه، بل كنتُ، في يفاعتي الأولى، أوثُره على طه حسين (أظنُّني لم أعُد كذلك لاحقا)، ثم أخبرَني مُحسن إن الرجل مُنظّرٌ وثوريٌّ وإصلاحيٌّ وزعيمٌ سياسي، وكان أول رئيسٍ مؤقّتٍ للصين بعد إنهاء الحكم الامبراطوري. ولمّا كانت الشواطئ ميسورةً في بلادنا، فيما المناسبة لن تتكرّر أن نتعرّف، عن كثب (!) إلى صَن يات صِن، كان القرار أن نزور المتحف.
كنّا ضُحى اليوم التالي (ليس اليوم إيّاه طبعا) في متحفٍ ليس كالمتاحف، وإنما هو حديقة واسعة مُسوّرة، بأشجار وزهور وفيرة، تضمّ بيوتا تقليدية ودكاكين صغيرة، وقاعاتٍ وصالاتٍ وغُرفاً في كلٍّ منها صورٌ ووثائق وكتبٌ وملابس، وسرير نوم صَن في طوْرٍ من حياته، وأشياء كثيرة تخصُّه. بحلقتُ ما وسعني أن أبحلق في كثيرٍ مما رأيتُ، وقرأتُ بعض شروحٍ بالإنكليزية (لا أعرف الصينية) عمّا كنتُ أرى. وصرتُ على إعجابٍ بهذا الرجل الذي يعدّ أبا الصين الحديثة، وأحد بُناة الجمهورية فيها (1912) بعد الثورة على حكم أسرة المانشو، وقد أنهت قروناً من سلطة سلالات إمبراطورية (يُنصح بمشاهدة فيلم بيرتولوتشي "الإمبراطور الأخير" لمعرفةٍ أفضل بتلك المرحلة). عرفتُ أنه كان طبيباً، ولد في 1866 وتوفّي في 1925، وكان مسيحيّاً (ربما تنصّر؟)، ونَشط في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا (وغيرها) للثورة.
أياماً وأعود، أبحثُ عن كتاب العقّاد، "سنْ ياتسن أبو الصين"، فألقى نُسخة إلكترونية (نُشرَ في 1952)، وأقرُأه (180 صفحة)، فأجدُ صاحبَه، كما غادرتُ قراءة كتبه قبل عقود، حريصاً على بسط معلوماتٍ غزيرة (نادراً ما يَنسِبُ شيئاً منها إلى مصادرها). الكتابُ مفيدٌ ليس فقط لمعرفة "بطلٍ من أعظم أبطال الشرق في العصر الحديث"، كما يكتبُ العقّاد عن صَن، وإنما أيضاً لمعرفة الفترة المضطربة (حروب أهلية) في تاريخ الصين قبل الشيوعية وبعد سقوط الزمن الإمبراطوري، وكان الرجل أحد أعلامها، برئاسته مؤقّتاً فترةً قصيرةً بلاده، وبحيوية نشاطه وحراكه، وبتنظيراتِه في الديمقراطية والمؤسّسية الدستورية والبرلمانية والاشتراكية. يعرّفك الكتاب بزيجتيْ صن يات صِن وأبنائه، وصلاته وأسفاره وخلافاته والاستهدافات ضدّه، ويوفّر أيضاً نصوصاً من كتبه وخطبه (من أين جاء بها العقّاد إلى العربية ولم يكن ثمّة "غوغل"؟).
أقيمُ، منذ تلك السفرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، على ما كنتُ عليه من إعجابٍ بصَن، حتى تُرسل إليّ الباحثة المجدّة المختصّة بالعلاقات الصينية الإسرائيلية، رزان شوامرة، مطالعةً عن هذه العلاقات قبل "أوسلو"، تأتي فيها (نُشرت في "العربي الجديد" في 15/9/2023) على رسالة من صَن يات صِن (بالإنكليزية) يُبجّل فيها، بحماسٍ، الحركة الصهيونية، التي يعدّها من أعظم الحركات في العالم، وتستحقّ، بحسبه، دعم كل محبّي الديمقراطية، وذلك في إبريل/ نيسان 1920. أُصابُ بذهولٍ كثير، وأتقصّى الأمر، ثم أعرفُ أن الرسالة (تسعة سطور) موجّهة إلى ناشرٍ يهوديٍّ، ناشطٍ صهيونيٍّ في شنغهاي (مواليد لاهور)، أشهرْتها، بنسختها الأصلية، المكتبة الوطنية الإسرائيلية في 2021، وتراها أوساطٌ هناك بأهمية وعد بلفور.
إذن، حرصَ الصهاينة الأوائل على أن يناصرَهم الديمقراطيُّ الثوري، صاحبُ الصوت الأعلى من أجل نهوض "الأمّة الصينية"، فكان لهم ما أرادوا. أما أنا فأصيرُ في خذلانٍ كبير، وفيَّ سؤالٌ ما إذا مرقْتُ قدّام تلك الرّسالة في المتحف ولم أنتبهْ لها. نُدردِش، رزان وخالد الحروب وأنا، قبل يوميْن في الدوحة، في الأمر، فيكون حديثُنا عن مُصابي بتلك الصاعقة مناسبة كتابة السطور أعلاه.