لنعرف ما في أوكرانيا نعرف ما في غزّة
لعل كثيرين من قرّاء هذه السطور يذكرون عبارة الفنان المرحوم نهاد قلعي في دور حسني البورظان (أو البورزان) في مسلسل "صح النوم" الكوميدي: "إذا أردنا أن نعرف ماذا يحدُث في إيطاليا علينا أن نعرف ماذا يحدُث في البرازيل". ولعل هذه العبارة باتت من أكثر الكنايات استخداماً من الكتّاب العرب لتوضيح السببية والربط بين الأحداث، فتوجب الاعتذار لقرّاء هذه المقالة الكرام على إعادة استخدامها هنا، لكن الحقيقة أنه لفهم ما يحدث في أوكرانيا اليوم، يجب أن يُنظَر في ما يحدُث في قطاع غزّة الذي شكّلت حربه، بكل مفاجأتها ومأساويتها، نموذجاً على تأثير الأحداث الكبرى بعضها ببعض في العلاقات الدولية، والتوازنات الجيوبولتيكية.
دفعت الحرب على غزّة، بعد 7 أكتوبر، إلى تحوّل الاهتمام عن الحرب في أوكرانيا، والغزو الروسي، منذرةً بتحوّلات دولية متعدّدة. وفيما دخلت الحرب الأوكرانية عامها الثاني، مع دخول الحرب في غزّة شهرها الرابع، فإن تأثيرات عدة فرضت نفسها، حيث بدأت الخلافات الأوكرانية الداخلية، بعد وحدة وطنية في المجتمع، منذ بداية الغزو الروسي البلاد، تطفو إلى السطح.
أقال الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلنسكي، قائد الجيش فلاديمير زالوجني، بعد عام تقريباً من إقالته وزير الدفاع، لكن الأول يمثل منافساً سياسياً محتملاً لزيلنسكي، كذلك فإن انسحاب القوات الأوكرانية من أفدييفكا (شرق) كأول نقطة تنسحب منها منذ عام، يسجل بالتالي أول نصر للقوات الروسية منذ ذلك الوقت. وبين هذه وتلك، ما زالت موافقة الكونغرس الأميركي على المساعدات العسكرية لأوكرانيا تُراوح مكانها، لا بل تشير تقارير إلى تخوّف الجمهوريين من تمرير المساعدات تحسّباً لعودة الرئيس السابق دونالد ترامب المحتملة بقوة، وهو المعارض تماماً تقديم المساعدات إلى أوكرانيا. وقد تصاعدت حدّة الجدل بشأن تقديم المساعدات بحكم زيادة الولايات المتحدة مساعداتها لإسرائيل بعد 7 أكتوبر، وهو ما أثار تخوّفات أوروبية من أن تترك واشنطن القارّة الأوروبية تواجه روسيا وحدها، خصوصاً أن تلك الدول تعهدت برفع إسهامها الدفاعي إلى 2% من ناتجها القومي الإجمالي، وهو ما تحقّق لدى عدة دول، ورغم اقتراب الدول الأوروبية بخطى ثابتة من الوصول إلى المستوى الروسي من الإنفاق العسكري، بـ 38 مليار دولار، فإن المظلة الأمنية الأميركية أساسية، وتلك تأثرت بطبيعة الحال منذ حرب غزّة.
التحرّك الروسي الخارجي، وخصوصاً بعد تراجع دور مرتزقتها في "فاغنر"، دفع أوكرانيا إلى استهداف مصالح موسكو في السودان قبيل أسابيع بطائرات من دون طيار
لهذا التراجع في أولوية الصراع في أوكرانيا تداعيات سلبية في روسيا، حيث إن موت المعارض القومي ألكسي نافالني، في سجنه في الغولاغ بسيبيريا، ويُتهم به الكرملين، بعد أن عاد مشافى من العلاج في ألمانيا، بسبب "تعرّضه" لغاز الأعصاب "نوفيتشوك"، الغاز المطوَّر من الجيش الروسي، واستخدمه سابقاً في محاولة تسميم العميل الروسي البريطاني سكريبال في سالزبيري. ولبس اتهام الكرملين جديداً، فلائحة المعارضين السياسيين، مثل بوريس نمتسوف، أو الصحافيين مثل آنا بوليتكوفسكايا، أو ناشطي (وناشطات) حقوق الإنسان، مثل ناتاليا إيستميروفا، تطول وتطول، وكلها لأشخاصٍ لم يتفقوا مع رؤية ساكن الكرملين. في عام 2017 حقّقت في وثائقي "جريمة في إسطنبول" عن استهداف روسيا معارضين في تركيا، في أكثر من 12 عملية اغتيال، كلها تتّجه أصابع الاتهام فيها إلى الكرملين.
وفيما يصمّ القصف في غزّة الآذان، استغلت روسيا ذلك، فكثّفت قصفها في الشمال السوري، ولم يحظَ هذا بتغطية صحافية كما تستحقّ، بحكم التركيز المفهوم (والضروري) للحرب في غزّة. ولعل التحرّك الروسي الخارجي، وخصوصاً بعد تراجع دور مرتزقتها في "فاغنر"، دفع أوكرانيا إلى استهداف مصالح موسكو في السودان قبيل أسابيع بطائرات من دون طيار، في حادثةٍ تشي بإمكانية توسّع الحروب بالنيابة على أراضٍ خارجية بين الدولتين، ولكن وقع حرب غزة الشديد غيّب الكثيرين عن مثل تلك التطورات.
شكّلت حرب غزّة، بكل مفاجآتها ومأساويتها، نموذجاً على تأثير الأحداث الكبرى بعضها ببعض في العلاقات الدولية والتوازنات الجيوبولتيكية
وكانت روسيا قد ركّزت، منذ بداية حربها في أوكرانيا، على ضخّ الأموال الضخمة على بروباغندا أو حملات دعائية ممنهجة، استهدفت، في ما استهدفت، مناطق بعيدة عن الصراع، منها دعاية باللغة العربية، إلى درجة أن السردية الروسية باتت أكبر قبولاً عربياً، وطبعاً مدعومة بسياسات أميركية غير عادلة، ولا نزيهة تجاه قضايا شعوب الضاد، ما أبرز روسيا، ولو صورياً، بديلاً لتلك السياسات الأميركية. لكن من الضروري الإشارة إلى أن الأقوال الدعائية الروسية، والتوقّعات العربية (منها إصرار حركة حماس على اعتبار روسيا من الضامنين لأي اتفاقيات)، كانت أبلغ وأقوى من أي موقف روسي حقيقي تجاه المقتلة الجارية في قطاع غزّة، ولم تتجاوز مجرد إنشائيات يعرفها من يفهم السياسة الروسية في المنطقة.
تترافق السنة الثانية من الحرب في أوكرانيا مع الذكرى الثمانين لنفي الزعيم السوفييتي ستالين وتهجيره شعوباً وقوميات عدة، منها الشيشان والإنغوش، إلى مجاهل كازاخستان، وأصقاع سيبيريا، حيث كانت السجون هناك توصف بـ "الغولاغ" (سجون السخرة السوفييتية ومنافٍ)، وأبدع في تصويرها الكاتب الروسي ألكسندر سولجنيتستن في كتابه "أرخبيل الغولاغ"، وكانت بعد عقد من "وباء الجوع" في أوكرانيا الذي فرضه ستالين، وأودى بحياة الملايين. ولذا فإن موت نافالني، في سيبيريا أو الغولاغ الجديد، وسلوك الدولة الروسية تجاه تلك الشعوب، وما يحدُث في غزّة اليوم أيضاً، خصوصاً مع صور طوابير الأطفال ينتظرون الطعام وهم يتضوّرون جوعاً، كلها عوامل تتشابك لدى كثيرين من أبناء تلك المناطق، ويدركون أن التعويل على موسكو ضامناً، أو حامياً، أو قطباً مناوئاً للولايات المتحدة قد لا يكون ناجعاً أو مؤثّراً، خصوصاً أن الحرب في غزّة ساهمت كثيراً في تخفيف الضغط عن نظام فلاديمير بوتين، وهو ما يؤكّد لنا أننا "إذا أردنا أن نعرف ماذا يحدث في أوكرانيا، علينا أن نعرف ماذا يحدث في غزّة"، ورحم الله نهاد قلعي.