لو سأل الفلسطينيون: لماذا تكرهنا الولايات المتحدة؟
يبدو السؤال، للوهلة الأولى، منفّراً، لعدة أسباب، لعلّ أهمها أنه يعيد، بشكل ما، صياغة سؤال آخر، بادر بطرحه الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، في بداية الألفية الثانية في سياقات تداعيات تفجيرات "11 سبتمبر" وما بعدها. سكب السؤال آنذاك جبالاً من الحقد على علاقاتٍ دوليةٍ يفترض أن تستند إلى عقلانيةٍ ما، وإن محدودة، كما يقول منظّرو هذه المدرسة، خصوصاً أنّ العرب متهمون بإغراق هذه العلاقات، المعقدة والمركبة، في محيط من اللاعقلانية ذات المصادر المتعدّدة: حقد طبقي تصبح بمقتضاه الولايات المتحدة حربة الإمبريالية المتوحشة التي تمتص دماء الشعب المفقرة، أو حقد ديني تصبح بمقتضاه حربه "الصليبية الجديدة" التي تصرّ على إذلال المسلمين، كما تذهب جماعات "جهادية" عديدة عنيفة. كان بوش يقصد، في صياغته الصرفية النحوية التي اختارها، حين أسند الفعل إلى ضمير الجمع الغائب "هم يكرهوننا" العرب والمسلمون عامة.
الأمة العربية تتمدّد على عدة دول تحكمنا، تختلف مشاربها ومواقفها ومصالحها إلى حد التناقض
وبقطع النظر عن مصادر هذه العواطف التي قد تكون متبادلةً في أوساط واسعة، مع مخاطر التعميمات المخلّة، ففي سياقاتٍ شديدة التركيب والتعقيد، يفقد السؤال ذاته لدى بعضهم مشروعيته، خصوصاً واو الجماعة التي نتكلم بها، إذ قد يدحض بعضهم هذا السؤال/ الأطروحة، باعتبار أنّ العرب، بصفة المفرد، لا وجود لهم إلا في خيال بعض الناس، حجتهم في هذا اختلاف العرب على المستويين، الإثني والثقافي، إلى حدّ يسحب منهم أيّ هوية جماعية، يمكن أن تكون ندّاً أو مخاطباً على مستوى العلاقات الدولية، فالعرب أمةٌ تتقاسمها دول، وهم أمةٌ تضم، في الحقيقة، أمماً تحت جناحيها، فهم ليسوا على غرار ما تجاورهم من أمم، على غرار الأمة التركية أو الإيرانية، حين اتّحدت فيها الدولة مع إثنيةٍ مهيمنة، استقرّت على مجال جغرافي واسع، احتضن قدراتهم وكفاءاتهم الراهنة في إدارة الشأن السياسي الوطني وإدارة العلاقات الدولية. لسنا - نحن العرب - في مثل هذه الحالات، فأمتنا تتمدّد على عدة دول تحكمنا، تختلف مشاربها ومواقفها ومصالحها إلى حد التناقض. فضلاً عن اختلافاتٍ أنثرو- تاريخية لا يمكن محوها، فهناك عرب الخليج وعرب شمال أفريقيا وعرب الشرق الأوسط. وهناك عرب المركز وعرب التخوم إلخ، من دون أن نغفل عرب الأنظمة وعرب الشعوب... بل هناك عرب القُطريات الشوفينية التي تنافسها شوفينياتٌ أكثر توتّراً داخل الحيز الحصاري الواحد: أكراد وأمازيغ... ، فهل من معنى لسؤال "لماذا تكرهنا الولايات المتحدة الأميركية؟" وهي التي على علاقةٍ وثيقةٍ بعرب الأنظمة، وبينهما مصالح وكثير من المودة والولاء؟
لا تبدو فرضيات المصلحة "المادية" وحدها قادرةً على فهم هذا التحيز الأميركي المطلق
تغفل أطروحة فوكوياما كلّ تلك التفاصيل المهمة، وتجمعنا في سلةٍ واحدة، وتجعلنا كلنا استثناءً مزعجاً للولايات المتحدة. لا نجد منظّراً له تأثير ونفوذ على السياسات الخارجية للولايات المتحدة موقفه منصف للعرب، حتى لا أقول إنه متعاطف معهم. كان تشومسكي استثناءً، يغرّد خارج السرب، وقد أجاب عن سؤال بوش آنذاك، أنّ الإذلال والنهب اللذين تمارسهما الولايات المتحدة كفيلان بصناعة تلك الكراهية.
خارج هذه التحيزات السياسية العاطفية التي تبديها أميركا تجاه إسرائيل، لا تبدو فرضيات المصلحة "المادية" وحدها قادرةً على فهم هذا التحيز المطلق، ذلك أنّ ما تقدّمه هذه الأنظمة العربية للولايات المتحدة لا يمكن مقارنته بما تقدّمه إسرائيل لها. لذا علينا البحث عن مصالح من نوع آخر، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة تنفق على إسرائيل بأشكال متعدّدة.
النضال الفلسطيني، لم يوسّع دوائر من يستهدف، وظلت بوصلته، بشكلٍ أو بآخر، موجّهة إلى الكيان الإسرائيلي
وعلى افتراض أنّنا - نحن العرب - لم نعد نمثل هويةً موحدةً جامعة، ترسم لها الولايات المتحدة سياساتٍ موجهة، فإنّ السؤال لا يفقد وجاهته، بل هو فقط ينتقل من العام إلى الخاص، ويكتفي بحدٍّ ما من إعادة الصياغة جزئياً. لماذا تكره الولايات المتحدة الفلسطينيين بهذا الشكل؟ علماً أن لا شيء، في التاريخ القريب على الأقل، يمنح جذوراً لهذا الموقف، حتى يجد ما يبرّره، فلا نذكر أنّ الولايات المتحدة قد صاغت ما يماثل وعد بلفور البريطاني، أو أيّ موقفٍ آخر يجعل من الحاضر سجين الماضي، أو مرتهناً له، فحتى بريطانيا، بلد الخطيئة الأصل في ميلاد هذا الكيان، تغيرت مواقفها نسبياً وبشكل براغماتي. كذلك فإنّ الفلسطينيين، في نضالاتهم ضد الاحتلال، لا نذكر أنّهم استهدفوا المصالح الأميركية رأساً. أجازت حركات التحرير لنفسها، بين حين وآخر، القيام بمثل ذلك، إلّا النضال الفلسطيني، لم يوسّع دوائر من يستهدف، وظلت بوصلته، بشكلٍ أو بآخر، موجّهة إلى الكيان الإسرائيلي.
لماذا تكره الولايات المتحدة الفلسطينيين؟ فرضية أنّ سياساتها الخارجية تمليها اللوبيات الصهيونية التي تحالفت، حدّ التماهي، مع أقصى اليمين الديني المحافظ في الولايات المتحدة، تظل قوية، ومع ذلك، هي غير كافية لفهم ما يجري. ستظلّ استراتيجية الهيمنة الأميركية على المنطقة معاديةً لأيّ نضال وطني فلسطيني، حتى لو ذهبت السلطة الفلسطينية إلى أبعد مما يمنحه أيّ نظام عربي تابع. لهذا ولغيره، ستظل الولايات المتحدة ضد الفلسطينيين، حتى ولو في الحدّ الإنساني الأخلاقي الذي يستنكر الاعتداءات الوحشية الجارية .. مجرّد عتاب أميركي ممنوع، خصوصاً وقد زيّن لها التطبيع ذلك.