لو علّقت مصر معاهدة السلام
يُخبرنا النّحاة أنّ حرف "لو"، في واحدةٍ من استخداماته اللغوية، حرفُ امتناعٍ لامتناع، بمعنى امتناع الجواب لامتناع الشرط، كأن تُخبِر صديقا بأنه لو زارك في البيت لقدّمتَ له حلوى مسقطية، ما يفيد بأنه لم يفعل فحرَم شخصَه من هذه المُتعة. وأخذاً بهذا، سيكون كلاماً لا طائلَ منه إذا استرسلتَ في تبيّن ما ستكونُ عليه مصر لو بادر الحكمُ فيها إلى تعليق العمل بمعاهدة السلام مع إسرائيل (1979)، والمبنيّة أساساً على اتفاقية كامب ديفيد (1978)، لأن هذا لن يحدُث، وليس وارداً أن يحدُث. ولا يتعلّق الأمر بالرئاسة الراهنة، المعقودة للمشير عبد الفتاح السيسي، فثمّة إجماعٌ واسعٌ جدّاً بين عموم المصريين على التعامل مع المعاهدة أمراً واقعاً، وليس في الوُسع حالياً نقضُها، بدليل أنّ أحداً من المرشّحين الثلاثة عشر الذين تنافسوا على الرئاسة في 2012 عقب ثورة يناير لم يتعهّد للناخبين بشيء من هذا (ربما باستثناء خالد علي)، وإنْ وعَدَ عمرو موسى بتعديلٍ في "كامب ديفيد"، يزيد من عدد القوات المصرية في سيناء على ما تُحدّده الاتفاقية، وإن وعَدَ حمدين صبّاحي بطرح المعاهدة لاستفتاء. ولا يُنسى أن برنامج مرشّح جماعة الإخوان المسلمين، محمد مرسي، خلا من إلغاء المعاهدة، بل نقل جيمي كارتر الذي التقاه عنه إنه سيلتزم بها إذا أصبح رئيساً، وإنْ نقل مقرّبون منه قوله إنه شخصيّاً لن يلتقي أي مسؤول إسرائيلي، بل زيد على هذا إن المرشّح الأصلي للجماعة، خيرت الشاطر، قبل أن يُستبدَل بمرسي، أبلغ زوّاراً له من الكونغرس احترامه المعاهدة إذا انتخبه المصريون رئيساً.
يُساق هذا المقطع من أرشيفٍ قريبٍ، ويُؤتى على تلك الإفادة اللغوية من البصريين والكوفيين من النّحاة، بمناسبة خبرٍ جديدٍ في منحاه، وغير مسبوقٍ في مبناه، ذاع نهار أمس، وأشاعته هيئة البثّ الإسرائيلية، موجزُه أن "نيويورك تايمز" و"وول ستريت جورنال" نقلتا عن مسؤولين مصريين (بلا أسماء) قولَهم إن القاهرة طلبت من عواصم غربية إبلاغ الحكومة الإسرائيلية إن عملية اجتياحٍ عسكريٍّ برّيٍّ في رفح، ينجُم عنها إجبار مئات الآلاف من الغزّيين إلى الفرار إلى سيناء، ستعُرّض معاهدة السلام إلى خطر، فتعمَد القاهرة إلى "تعليقٍ" العمل بها. لم تعقّب الحكومة المصرية بشيءٍ بشأن هذا الخبر غير الرسمي، ما يجعله في دائرة "التسريب" المنضبط، ربما بغرض جسّ النبض، حتى لو صحّ أن وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، سمع، الأسبوع الماضي في القاهرة، تلويحاً بتهديدٍ بهذا من الرئيس السيسي. ومع الوزن المهني المعتَبر للصحيفتين، معطوفاً عليه ما يرشَح عن غضب القاهرة من تمادي إسرائيل في العنف الباهظ الذي أحدثَ كلفةً بشريةً فظيعة بين الغزّيين، ودماراً مهولاً في القطاع المنكوب، فإن في الوُسع أن يُرجَّح أن خبر "التهديد" على قدرٍ من الصحّة، ويجيز الخوض، ولو بتحسّبٍ وتحوّطٍ كثيرَيْن، في الذي يمكن أن يطرأ من وقائع لو "مضت" فيه القاهرة التي لم تُصرّح به، والذي يأتي أياماً بعد نبأ سابقٍ غير مؤكّدٍ أيضاً عن امتناع السيسي تلبية طلبٍ من نتنياهو الحديث معه هاتفيّاً.
ليس أداء الحكم في مصر بشأن عدوان الإبادة الإسرائيلية في غزّة مُرضياً. كان المشتهى (ولا يزال؟) أن يرتفع إلى ما توجِبه ليس الاعتبارات الوطنية والعروبية والإنسانية فحسب، بشأن نصرة غزّة والشعب الفلسطيني فيها، بل أيضاً إلى ما تفرضه المصالح المصرية نفسها، وظلّ مأمولاً من القاهرة أن تمتنع عن الاستجابة للاشتراطات المسيئة لوزن مصر ومكانتها، ولجيرتها غزّة، لعبور شاحنات المساعدات الإنسانية والإغاثية (المقدّمة من دول عديدة) إلى القطاع. وألا "تُمؤسس" التجارة الشنيعة بدماء غزّة، عندما تتقاضى مؤسّسةٌ، هجينةٌ، فيها، خمسة آلاف دولار عن كل إنسانٍ في القطاع "تُنسّق" له الحصول على "الموافقة" الإسرائيلية على خروجه من معبر رفح. كان المتمنّى أن تتسلّح مصر بقرارات محكمة العدل الدولية بشأن إدخال المساعدات، وبقرار قمّةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ واضحٍ يطالب (من؟) بكسر الحصار (فورا!) على غزّة. كان الكثير مما تمنّاه المواطن العربي من الحكم في مصر، الكبيرة المقام في الوجدان العربي، أن يكون تعاملُه مع المحنة الحادثة في غزّة ندّياً مع عدوانٍ متوحّش، يُنذر بخطوطٍ حُمرٍ معلَنةٍ من شأنها وقف العدوان، لا أن يكتفي بدورٍ وسيطٍ وناقل رسائل، وبتصريحاتٍ وبياناتٍ تُجيز أن يفترض من أراد أن يفترض أن مصر لا يعنيها من كل الذي يحدُث في القطاع سوى تهجير الغزّيين إلى سيناء (اقترح السيسي علناً تهجيرَهم مؤقّتا إلى صحراء النقب)... وهذا التلويحُ بتعليق معاهدة السلام لا يفيدُ بغير هذا، لو صار اجتياحٌ برّيٌّ في رفح، و"لو" حرفُ امتناعٍ لامتناع.