ليبيا ... عود على بدء
تحوّلت الأزمة الليبية إلى مشهد مكرّر ومملّ لكثرة ما تُعاد الأحداث مع تغييرات في بعض التفاصيل، لكن النتيجة واحدة، أنه لا يمكن توقّع أي اتفاق على إجراء الانتخابات بشقّيها الرئاسي أو البرلماني. وكلما لاحت ملامح اتفاق، عاد الوضع إلى الوراء خطواتٍ لا خطوة. تتبدّل أسماء عديدة تتناوب المناصب منذ ما بعد انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 2011، لكن المناورات نفسها لم تتغيّر. يبدو وكأن هناك اتفاقا ضمنيا بين الأطياف الليبية على عدم الرغبة بإجراء الانتخابات. بقاء الوضع الحالي بما ينطوي عليه من فوضى سياسية وعسكرية وتفلت للمليشيات هو الأنسب للجميع. ولذلك ليس ما جرى أخيرا في بوزنيقة المغربية استثناء بل هو المعتاد في الحالة الليبية. يمكن للجنة 6 + 6 أن تقول ما تشاء عن التوافق على قوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكن مخرجاتها التي لم تصل إلى أن تُعلن أو يتم التوقيع عليها ستبقى مجرّد حبر على ورق ما دامت الإرادة السياسية لتطبيقها غائبة أو متعثرة. فجميع القوى الفاعلة في المشهد الليبي تحرص على إغداق العبارات عن الرغبة في التوافق، ولكن هوة واسعة بين الأقوال والأفعال، بما في ذلك الصادرة عن رئيس مجلس النواب عقلية صالح والمجلس الأعلى للدولة خالد المشري، اللذين عطّلا الاتفاق الأخير. وليست هذه الهوة مدعاة للاستغراب، بل تكاد تكون مفهومة تماماً في الحالة الليبية، إذا ما جرى التعاطي معها بعيداً عن الأوهام والشعارات.
بلد مثل ليبيا، بمقدّراته النفطية والاقتصادية، يوفّر فيه الاستقرار الأمني والمسار الديمقراطي الذي يضمن عملية انتقالية سياسية إحداث نقلة نوعية في البلد على الصعيدين السياسي والتنموي. لكن البلاد تسير منذ إطاحة نظام القذافي في مسار معاكس لهذا الاتجاه، وتبتعد عنه أكثر فأكثر. تعاني البلاد من الانقسامات السياسية والعسكرية، إذ تسعى القوى المتنافسة للظفر بأكبر قدر من النفوذ وفرض سيطرتها على المؤسّسات الحكومية والثروات النفطية. والنتيجة إعاقة التوافق بما في ذلك على إجراء الانتخابات، لأنها لا تصبّ في صالحها. وإذا كانت خلافات المؤسّسات ومن يقودها غير كافية، فإن لديها ما تستند إليه من مليشيات موزّعة بطول البلاد وعرضها، ما يجعل من السهل التذرّع بصعوبة تنظيم انتخابات أو تأمينها في مناطق متعدّدة. ولعل المحفز الأكبر لهذه الانقسامات والتباينات غياب الثقة بين الأطراف السياسية والعسكرية المتنافسة. ولا تحضر فقط الشكوك والمخاوف بشأن نزاهة العملية الانتخابية وتأثير الفساد على أي استحقاق، بل يتعاطى كل طرفٍ مع الطرف الآخر على قاعدة أنه يُضمر كل الشرور له، وأن خلف كل تحرّك مناورة في العلن أو الخفاء لإقصائه.
وبطبيعة الحال، يمكن أن تُضاف إلى ذلك كله التدخلات الخارجية في الأزمة الليبية، ما يساهم في تعقيد أي حلول، ويؤخّر التوصّل إلى تسوية أو اتفاق يدعم إجراء الاستحقاق الانتخابي. وإذا ما تم حصر متطلبات إجراء أي انتخاباتٍ وتطبيقها على الوضع الليبي يمكن تخيّل كم يصعب تحقيق ذلك حالياً، فلا يزال التوافق السياسي على القواعد الأساسية للانتخابات معطّلاً، وما جرى في بوزنيقة المغربية خير دليل على ذلك. كما أنه من غير الممكن ضمان الاستقرار والأمن وتطبيق القانون بشكل فعال لضمان سلامة العملية الانتخابية وحرية المشاركة.
أما ذهاب بعضهم للتلويح بفرض خيارات ووجود دور أممي لتحقيق ذلك، فليس أكثر من نكتة سمجة، حتى الأمم المتحدّة لا تصدقها. ومهما بلغت تحذيرات مبعوثها عبد الله باتيلي، فإن الأمم المتحدة تدرك جيداً أنه لا يمكن فرض أي خطوة في ليبيا، إذ وحدَه التوافق، مهما تأخّر أو تعرقل، يشكل ضمان تنفيذ أي تفاهم، وإلا فالسيناريو الآخر سيكون الاقتتال.