ليس القانون الدولي معيباً
ازدادت منذ عقد حدة التوتر في المنطقة مع انطلاق أحداث الربيع العربي، وتفاقم الوضع الأمني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وارتفاع حدّة السلوك اللاأخلاقي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية (داعش)، وأزمات في أماكن أخرى متفرقة من العالم. ولم يتوقف الحال هنا، بل كان لنشوب الحرب الروسية الأوكرانية وقع آخر زاد من قتامة المشهد الدولي. واليوم يشهد العالم وجود أكثر من مائة نزاع تهدّد حياة الناس والسلم العالمي، وتؤخّرعجلة التنمية والتقدم لأول مرة في التاريخ المعاصر، بوصفها شاهدًا على فظاعة هذه الأحداث، فبينما لم تنفكّ الحالة المستعصية لوضع حلولٍ للنتائج التي ترتبت على الربيع العربي؛ من هجرة قسرية ولجوء وانتهاكات جسيمة لسلامة المدنيين وحياتهم وكرامتهم في بلدانهم الأصلية أو البلدان التي عبروا من خلالها أو تلك التي استقرّوا فيها، طالعتنا حالة الهجرة من أوكرانيا، فأصبح هناك ضغط شديد على الموارد والطاقات والفرق التي تتعامل مع أوضاع المدنيين في زمن النزاع المسلح.
هذا فضلًا عمَّا أنتجته هذه الحرب من خرق للقانون الدولي وقانون الحرب؛ بتعطيل الإمدادات التجارية من الغذاء والطاقة، ومن ثم تدهور الحالة الغذائية والمعيشية لملايين البشر في جميع أنحاء العالم، فقد أثرت هذه الممارسات اللامسؤولة تأثيرًا سلبيًّا في أسعار القمح والطاقة، لتهدّد عشرات الدول النامية والفقيرة بشبح المجاعة، وتضع ملايين آخرين في وضعٍ لن يتمكّنوا فيه من تأمين وجبة الطعام أو تدفئة عوائلهم وأطفالهم.
ومما زاد من صعوبة المشهد الإنساني القصور الشديد من أطراف النزاعات المختلفة في الامتثال لتعاليم القانون الدولي الإنساني، أو ما يعرف بقانون النزاعات المسلحة والحروب؛ من خلال عدم الإنفاذ أو الخرق المباشر. ذلك القانون الذي يعزّز مبادئ الحماية للمدنيين، ومن لا ينخرطون بأعمالٍ ذات طبيعة عسكرية، ويحدّ من وسائل القتال وأساليبه، ويحظر الاعتداء المباشر وغير المباشر على الأعيان المدنية الخاصة والعامة. وهو القانون نفسه الذي يلزم الأطراف المتعاقدة على مكوناته وبنوده بالقيام بواجبها في تأمين احتياج المتأثرين بالنزاع، أو على الأقل بعدم عرقلة عمل مؤسسات الإغاثة الإنسانية الوطنية والدولية وتسهيله، فقد نصت اتفاقية جنيف الرابعة على ضرورة السماح لمنظمات الإغاثة الدولية، كالصليب الأحمر ومثيلاتها، بالعمل على إغاثة المدنيين وحمايتهم في أوقات النزاعات وأوضاع الاحتلال.
يشهد العالم وجود أكثر من مائة نزاع تهدّد حياة الناس والسلم العالمي، وتؤخّر عجلة التنمية والتقدم لأول مرة في التاريخ المعاصر
وفي المشهد نفسه تنامت الاحتياجات الإنسانية، وأصبحت عملية تقديم العون الإنساني وأعمال الإغاثة ضرورة ملحّة، ولكنها واجهت عراقيل شديدة بسبب عدم احترام القانون الدولي وعدم تعاون الأطراف المتنازعة في تطبيق بنوده المتعلقة بحماية المدنيين والعاملين الإنسانيين، وهو ما كان له أثر سلبي كبير في حياة المحميين عمومًا وحريتهم وكرامتهم، فالقانون الذي ينادي بتحييد المدنيين وحمايتهم وتسهيل عمل الهيئات الدولية الإنسانية أضحى فريسةً سهلةً لجماعاتٍ مسلحة غير مدرّبة ولا رادع لها، ودول ساندتها قرارات أممية رفيعة المستوى لتوغل في تسلطها، وأخرى لا تجد من يصدّها أو يضع حدًّا لتعنتها وصلفها في تجاوز بنود القانون الدولي. ففي أوكرانيا مثلًا، أحدثِ النزاعات المسلحة الدولية وأكثرها شراسة، نرى عمليات استهداف مباشر للمدنيين والتجمعات السكنية، وما نتج عنها من تهجير قسري وقتل وإصابات جماعية بين صفوف السكان من المدنيين. كما استُهدِفت محطات الطاقة التي تحتوي على قوى خطيرة، وبنى تحتية أساسية كالجسور والطرق والمفاعلات النووية، بما يشكل في مجمله خرقًا واضحًا وجسيمًا لبنود اتفاقيات القانون الدولي الإنساني. ومن أخطر ما سُجِّل فرار ملايين البشر من نار الحرب المستعرة إلى دولٍ أخرى مجاورة أو أبعد، وهو المشهد نفسه الذي رأيناه في فلسطين وسورية واليمن وأفغانستان وغيرها.
وُلد القانون الدولي الإنساني منقوصاً، أي إنه قانون تعليمات لا قانون عقوبات، والتزمت الأطراف السامية باحترامه وضمان تنفيذه
لم تألُ أيٌّ من المنظمات الدولية المختصة والراعية للقانون الدولي الإنساني، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر ومؤسسة نداء جنيف، أو الأممية كمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أو رجال القانون وسيداته ممن أداروا المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة والخاصة، لم تألُ جهدًا في تشخيص الحالة التي يمرّ بها القانون الدولي الإنساني، فجميع هؤلاء يعتقدون أن هناك تحدّيات تواجه القانون الدولي الإنساني ويقرّون بها، وقد بدأت هذه الأطراف معالجتها، خصوصا المتعلقة بتطور النزاعات المسلحة واستخدام التكنولوجيا والشركات الخاصة في القتال والحروب السيبرانية. ولكنهم يعتقدون أنَّ جسم القانون الرئيسي وروحه ما يزالان مهددين ومثقلين بسبب ممارسات أطراف النزاع في تبنّي سياساتٍ تخرق القانون الدولي في أثناء نزاعاتها، أو عدم قيامها بما تعهدت به من صون قانون النزاعات المسلحة واحترامه في جميع الأوقات والأحوال.
يحدّ التدخل السياسي للقوى العظمى من قدرة المؤسسات التنفيذية الدولية على الوفاء بتعهداتها، ويشجع أطرافًا أخرى على خرق القانون من دون الأخذ بالحسبان أي مراجعة أو محاسبة على سلوكاتها المشينة في حق المدنيين والفئات المحمية، وعلى الجرائم التي ترتكبها يوميًّا. كما أن اقتراف دول عظمى جرائم وانتهاكات جسيمة لروح القانون يشجع آخرين على التقليد أو الرد بالمثل، وهو ما نهى عنه القانون، وحذّرت منه جميع المؤتمرات الدولية منذ وضع اتفاقيات القانون الدولي الإنساني المعاصر. والأخطر من ذلك كله تردّد كثير من الدول العظمى وصاحبة النفوذ الدولي في الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية المعنية بمحاسبة ومحاكمة من يخرقون القانون أو يجرؤون على عدم إنفاذه والانصياع لتعليماته في أثناء القتال.
حالة من العجز الكبير في الوفاء بالتزام الدول وأجهزة الأمم المتحدة المختصة وذات العلاقة بالقانون الدولي
على الرغم من التوصيات عالية المستوى، والدعوات المتكرّرة لقادة العمل الإنساني في العالم، كمنسق الشؤون الإنسانية السابق والحالي، ورئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والأمين العام للأمم المتحدة، والأمين العام لجامعة الدول العربية، ورئيس الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بضرورة الالتزام بتنفيذ القانون الدولي الإنساني والعمل على احترامه، نجد من بين قادة الدول غير ملتزمين، ويصرّون على المضي في ممارساتهم ضاربين بالقوانين والمناشدات كلها عُرض الحائط.
يبدأ تحقيق السلم العالمي من منع نشوب الحروب والنزاعات، ولهذا كانت محكمة العدل الدولية، وإن نشبت الحرب أو النزاع وجب تفعيل الآليات الوطنية لمحاسبة المجرمين ومنتهكي القانون، تدعمها إمكانية إنشاء محاكم خاصة، والولاية القضائية للدول الأخرى، وصولًا إلى المحكمة الجنائية الدولية للمحاسبة والمسؤولية. ولكن ما نحتاج إليه هو الإرادة والعزيمة والقدرة على تفعيل هذه المساقات المختلفة، وأن تلتزم الدول بالقانون والممارسات الأصيلة لمنع الخروقات المنتهِكة لسلامة الإنسان وحرمته.
لقد ولد القانون الدولي الإنساني منقوصًا، أي إنه قانون تعليمات لا قانون عقوبات، والتزمت الأطراف السامية باحترامه وضمان تنفيذه. واليوم نرى حالة من العجز الكبير في الوفاء بهذا الالتزام من الدول وأجهزة الأمم المتحدة المختصة وذات العلاقة. وعليه، ليس هذا القانون في نصه معيبًا، ولكن العيب في غياب عناصر الإنفاذ فيه. نعم، القانون الدولي الإنساني بحالته الحالية ليس معيبًا، ولكنه منقوص! ولعل الوقت قد حان لأن يكمّل المنقوص، خصوصا أن الحاضنة الجزائية أضحت قائمة، ولديها القدرة على المساءلة والمحاسبة على نح أقوى وجرأة أكبر.