نحو نهج جديد في العمل الإنساني العالمي
زادت حدّة النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية في إرباك المشهد الإنساني العالمي، الذي يمرّ بأسوأ حالاته في التاريخ المعاصر، وهو ما يهدّد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية لأكثر من 340 مليون إنسان يعيشون في مناطق تعاني الصراعات والأزمات. وفي وقتٍ يشهد فيه العالم مائة نزاع مسلح نشط، وفقاً لتصريح مدير العمليات باللجنة الدولية للصليب الأحمر، روبير مارديني، في معرض إطلاق اللجنة احتياجاتها التمويلية، من أجل الاستجابة للاحتياجات الإنسانية وأعمال الحماية حول العالم، تأتي الأزمات الناتجة عن التغير المناخي والكوارث الطبيعية، وأحدثها المأساة الإنسانية بفعل الزلزال المدمّر في جنوب تركيا والشمال السوري، فتزداد الحاجة إلى التفكير في نُهج جديدة للعمل الإنساني، في وقتٍ تواجه فيه الموارد المتاحة انخفاضاً شديداً، بالتزامن مع اتساع الفجوة بين الحاجة والموارد أكبر مما قد يتصوّره الإنسان، وذلك ما يؤكّد ضرورة العمل على إيجاد حلول لهؤلاء المتضرّرين حول العالم. يسلط هذا المقال الضوء على تراجع الدعم الدولي وأثره في المتأثّرين بالأزمات، ثم يتطرّق إلى أسباب اضطراب المنظومة الإنسانية، وأخيراً يشير إلى نقاط مفيدة لصُنّاع القرار والفاعلين الدوليين، مثل الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية نحو نهج جديد للعمل الإنساني، وخصوصاً التوجّه الذي يدمج التغير المناخي والكوارث الطبيعية مع أوضاع النزاعات في الاستجابة الإنسانية، مع ضرورة الاعتراف بالعلاقة الأثرية بين النزاعات وخصائصها العدائية بين الأطراف والكوارث الطبيعية وأثرها في السلام.
انحسار الفضاء الإنساني مع الكارثة في تركيا وسورية
تبلورت المنظومة الإنسانية بشكلها الحالي نتيجة لما شهدته البشرية من نزاعاتٍ وأزمات أودت بحياة الملايين من البشر. وبالتدريج، أصبحت بلدانٌ عديدة تعتمد اعتماداً أساسيّاً على الدعم الخارجي الذي يقدّمه ممثلو المنظومة الإنسانية من دول ومنظمات دولية وإقليمية وفاعلين على المستوى الإنساني. ومع ازدياد وتيرة الصراعات والحروب في القرن الحادي والعشرين، وصعود التطرّف والصراعات الأهلية، وازدياد أعداد المهجّرين قسريّاً، بالتزامن مع ما أوجده واقع وباء كورونا، وتضرّر اقتصاداتٍ عديدة، والحرب الروسية الأوكرانية، والزلزال الذي ضرب تركيا وسورية قبل أيام، نرى مدى الإرهاق الشديد الذي تعرّضت له المنظومة الإنسانية. وعلى الرغم من أن الاستجابة الإنسانية لمثل هذه الأزمات تتطلّب احتياجاتٍ هائلة وموارد كبيرة، نرى دولاً مانحة عديدة تتجه باستمرار نحو تقليص حجم الدعم المالي المقدّم للسكان المتضرّرين من الصراعات والأزمات، من دون تقديم أي حلولٍ عملية لتحسين ظروف حياتهم؛ فعلى سبيل المثال، قلصت المملكة المتحدة، في عام 2021، الموازنة المخصّصة للمساعدات الخارجية والإنسانية بنسبة 50% في أعقاب جائحة كورونا، لتعلن الحكومة الجديدة تقليصاً إضافياً في أعقاب التعسّر الاقتصادي الذي تمر به المملكة. وليس الحال أفضل في دول أوروبية عديدة أعلنت أيضاً تقليصاً حادّاً في موازناتها الإغاثية الدولية، مدّعية أن هناك أولويات لتقديم العون الإنساني، الأمر الذي يتطلب إعادة توجيه للتمويل. ولكننا ندرك اليوم أن هشاشة الأوضاع التي تخلّفها النزاعات تجعل من هذه المجتمعات عرضة للمآسي، فالشمال السوري المنهك اليوم لا توجد لديه القدرة على إنقاذ الأرواح، وأضحت قدرة المجتمع والسلطات والمؤسسات الأممية محدودة وأيديها مكبّلة، بسبب الحصار، وشحّ الموارد، والتداعيات السياسية والاقتصادية لقانون قيصر. وعلى الرغم من قرار الأمم المتحدة القديم الجديد بتحرير المساعدات الإنسانية من أي عقوباتٍ تفرض على أي بلد، فإن تطبيق هذا القرار يخضع لكثير من البيروقراطية المرضية. يبقى واقع الحال أن آلاف المدنيين يلفظون آخر أنفاسهم تحت أنقاض الموت والزلازل، لأنه لا حول لهم ولا قوة برفعها من أجل ضمان الحياة، ولكن حتماً سترفع لضمان كرامة الجثامين لاحقاً.
الشمال السوري المنهك اليوم لا توجد لديه القدرة على إنقاذ الأرواح، وأضحت قدرة المجتمع والسلطات والمؤسسات الأممية محدودة وأيديها مكبّلة
وفي ضوء ما سبق، يمكننا أن نستشعر حجم الأزمة الإنسانية بشكلٍ جلي، حيث يشير تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) حول وضع الاحتياج الإنساني العالمي في الأول من ديسمبر/ كانون الأول لهذا العام، إلى صعود أعداد المحتاجين للمساعدات الإنسانية بنسبة 20% عن العام الماضي، و30% عن عام 2020، مع التوقّع بأن يبلغ عددهم نحو 339 مليون شخص. وقد توقّعت المؤسسات الأممية أن تكون قادرة على مساعدة 230 مليون إنسان في 2023، في مقابل 183 مليوناً العام الماضي، بزيادة 20%، مع الإشارة هنا إلى أن التقرير أظهر ارتفاعاً في التكلفة المصاحبة للزيادة في أعداد الذين يحتاجون مساعدة إنسانية، لتصل إلى أكثر من 51 مليار دولار في مقابل 41 ملياراً في عام 2022، أي بزيادة 20% أيضاً. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن جائحة كورونا، وتكاليف التعامل معها، لا تزال تثقل كاهل الدول والاقتصادات العالمية، فنرى دولاً مثل الصين لا تزال تصارع لاحتواء هذا الوباء، وتحاول جاهدة أن تعبر إلى برّ الأمان، ودولاً أخرى قد أرهقت خزاناتها من جرّاء الجائحة، وما تُكابده من تكاليف لتوفير اللقاحات للمواطنين، ودفع المساهمات المالية لمساعدتهم على البقاء على قيد الحياة. وفي بلدان أخرى، تصر الكوليرا وإيبولا على أن تضيف إلى معاناة شعوبٍ أخرى في المنطقة العربية، وكذلك في القارّة الأفريقية، وغيرها من المناطق التي تعاني الأزمات.
ويزداد مشهد الأزمة الإنسانية قتامة وبشاعة في الشرق الأوسط، مع الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا والشمال السوري، الأمر الذي يؤكّد ضرورة العمل على نهج جديد للاستجابة الإنسانية لمن أصبحوا بين مطرقة الصراع وسندان الكوارث الطبيعية على حد سواء. وبينما كانت المنظمات الأممية تسعى إلى الحفاظ على حجم التمويل المطلوب للاستجابة الإنسانية والحماية، وعدم رفع سقف هذا التمويل عن الأعوام الماضية وإبقاء النسبة ذاتها، نجد أن هناك تراجعاً في الاستجابة للتحدّيات الإنسانية الجديدة التي بدأت تظهر، أبرزها التحدّيات المرتبطة بالصراعات والتغير المناخي والكوارث الطبيعية. والتساؤل الأكبر والأخطر، كيف يمكن لموظفي الأمم المتحدة وخصوصاً "الأوتشا"، أن تقرّر عدم رفع الموازنات الإغاثية، وهي الجهة التي تعلم بشكلٍ راسخ أن زلزال تركيا وشيك، وهي التي عملت مع الحكومة التركية سنوات لتوقع حدوثه والتجهيز للاستجابة له فور حدوثه. كيف لم يجر الاستعداد لهذا الزلزال وتبعاته في سورية وشمالها؟ كيف شجّعت الأمم المتحدة وحثّت اللاجئين والنازحين على العودة إلى أماكن سكناهم هناك، من دون أن تعمل على تجهيز هذه الأماكن بالموارد والبنى التحتية الوقائية، على الأقل للاستجابة لمثل ما حدث؟
التغير المناخي والكوارث الطبيعية ستضرب غير آبهة بمدى معاناة الناس نتيجة للنزاعات أو تبعاتها، فهل ترفع السياسة المعيبة يدها عن العمل الإنساني والاستجابة للكوارث وتعزيز قدرات الوقاية والتعافي؟
اضطراب المنظومة الإنسانية
تتوقع المؤسسات الأممية ومراكز الدراسات البحثية دخول العالم في أزمة غذاءٍ عالمية عام 2023، هذه الأزمة سيكون وقعها أشد وطأة على المناطق التي تعاني الحروب والصراعات في جميع المناطق التي تنشط فيها. وقد عبرت الأمم المتحدة سابقاً عن أنَّ الوضع الحالي والمتوقع للعام المقبل هو الأسوأ؛ بوجود 222 مليون إنسان يعيشون من دون أمن غذائي، في حين سيعاني 45 مليوناً المجاعة في أكثر من 37 دولة في عام 2023. يضاف إلى ذلك أزمتا اللجوء والنزوح القسريين، إذ يزيد عدد الأشخاص اللاجئين والنازحين قسريّاً اليوم عن مائة مليون إنسان، ويعيش حاليّاً نحو 65 مليوناً منهم في دولٍ تعاني أزمة في الغذاء. والمحزن أنَّ قرابة 25 مليوناً منهم لاجئون في دولٍ نامية. ومن المرجّح أن ترتفع هذه النسب نتيجة التغيرات المناخية؛ من فيضانات وجفاف وغيرها، على مستوى العالم. واليوم، وفي ظل زلازل وفيضانات ومظاهر حادّة لتبعات التغير المناخي في المنطقة، يتوجب أن نفكر في أنماط أخرى للاستجابة، تعتمد على تمكين المجتمعات المحلية، وبناء قدرتها على الاستجابة. يتعيّن اليوم أن نضع حداً للعقاب الجماعي الناتج عن الممارسات السياسية غير الموزونة. يجب أن نؤكّد على الفصل بين السلطات في النظام الأممي، وألا يعبث الدور السياسي بصلاحيات المنظمات الإنسانية وإمكاناتها ومقدّراتها بأي شكل. لقد توجب على الأخيرة أن تلجأ لمجلس الأمن لإعادة ابتكار الدولاب بأن المساعدات الإنسانية لا تخضع للحصار والابتزاز السياسي، بالرغم من أن هذا الدولاب جرى ابتكاره قبل عقود طويلة في اتفاقيات جنيف.
الاستجابة الإنسانية لا تزال تفتقر إلى تحديد مخاطر "الظواهر المناخية المتطرفة" وآثارها، مثل الفيضانات والجفاف والتصحّر، وكذلك الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل في مناطق النزاع والحروب
يعاني النظام الإنساني العالمي اضطراباً واضحاً يضع حياة كثيرين ممن يعتمدون عليه، من ضحايا النزاعات والكوارث، في دائرة الخطر، ومن ثم فقدان فرصهم في ضمان حياة كريمة لهم ولعائلاتهم. وقد حذّرت، في وقت سابق، كلٌّ من اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنسّق شؤون الإغاثة الإنسانية في الأمم المتحدة مما قد تؤول إليه الأمور في عام 2023، في ظل تفاقم سوء الأوضاع في العديد من هذه النزاعات، وتزايد حدّة الانتهاكات للقانون الدولي، والأخطر من ذلك كله الوضع الغذائي العالمي الذي تعرّض لحالة من عدم الاستقرار الشديد، نتيجة للضرر الذي أحدثته الحرب الروسية الأوكرانية على مصادر القمح والمواد الغذائية الأخرى، وارتفاع أسعارها ارتفاعاً حادّاً في الأسواق العالمية. فضلاً عن أزمة الطاقة التي ألهبت أسعار الوقود ومصادر الدفء في الدول الأوروبية وعالميّاً، وهو ما أثقل كاهل اقتصاداتها، ليترتّب عليه تقليصٌ حادٌّ في الموازنات العامة والإنفاق الحكومي. يفرض ذلك كله تحدّياً كبيراً على المنظمات الدولية والأممية للوفاء بالتزاماتها أمام الفئات المهدّدة والمحتاجة إلى العون الإنساني في جميع أنحاء العالم. وسيضيف الواقع الجديد من سلسلة الزلازل المتلاحقة وشبح تسونامي المتوقع إلى العوز والحاجة إلى تدخّل إنساني أكبر بسبب الكوارث الطبيعية. ولكن إلى أي مدى سيصمد نظام العمل الإنساني أمام الحاجة المتزايدة بشكل حادّ جداً مع نمط عمل السياسة، تحت شعار المساعدات المشروطة والعقوبات المفروضة؟ عاقبوا الحكومات ما شئتم، ولكن ارفعوا أيديكم عن الشعوب بشكلٍ عام وعن الضحايا فوراً.
وعليه، يجب على المجتمع الدولي وممثليه الاستمرار في تقديم الدعم الدولي والمساعدات الخارجية لجميع المحتاجين، حيثما وجدت الحاجة، لصون (وحماية) كرامة الإنسان أينما وجد، ومن أجل تخفيف المعاناة الإنسانية على الأقل، ومتى أمكن ذلك نقل المجتمعات المتأثّرة بالصراعات والأزمات من حالة الحرب والصراع إلى السلام، من خلال البرامج المخصّصة لهذا الغرض. وإذ نعتقد أن ضرورة استمرار الدعم الإنساني أمرٌ مفروغٌ منه، هناك معضلة كبيرة تتمثل، فيما عبرنا عنه سابقاً، تتمثل في تدخلاتٍ سياسية في عملية المساعدات الخارجية في أحيانٍ كثيرة، وهو ما قد يؤثّر في نسب التمويل المخصصة لمناطق على حساب مناطق أخرى؛ نظراً إلى ما تمثله السياسة الدولية من أهمية في بعض مناطق الصراعات، وخصوصاً في المنطقة العربية، مثل فلسطين وسورية واليمن. ومن ثم، على الممثلين الدوليين الالتزام بالمعايير الإنسانية في تقديم المساعدات الخارجية، والتخلي عن إقحام المعايير السياسية في العمل الإنساني، وعدم المساس بتقديم المساعدات الخارجية، وتعزيز الحماية من دون تمييز؛ فهذا النوع من الدعم أثبت قدرته على تخفيف المعاناة الإنسانية. بهذه الطريقة فقط، يمكن أن نضمن ألا تقع المنظومة الإنسانية ضحية ازدواجية المعايير من جهة، وسيطرة فئاتٍ متطرفة أخرى على المشهد الداخلي للبلدان التي تعاني الأزمات ولا تتلقى ما يكفيها من العون الدولي والأممي، من جهة أخرى.
ما العمل؟ دعم النظام الإنساني وتعزيز الحماية
لقد أصبح واضحاً أن استمرار الدعم الإنساني وتعزيز الحماية لضحايا الأزمات سيكون مرهوناً بمتطلّبات النظام العالمي الجديدة التي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية وحالة الحرب الباردة المتجدّدة بين روسيا والولايات المتحدة وأوروبا، وسابقاً جائحة كورونا التي أدّت إلى إرهاق النظام الإنساني المرهق أصلاً. تعد تلبية هذه المتطلبات تحدّياً كبيراً تواجهه المنظومة الإنسانية العالمية، التي تعاني نقصاً مزمناً في الموارد، لكن في حال تخطّي المعضلات الفنية والسياسية، واستمرار التفكير في حلول فعّالة لتقديم العون الإنساني، فمن المحتمل أن ترتفع معدّلات انعدام الأمن الغذائي والصحة والتعليم، حيث لا يزال الملايين يواجهون خطر انعدام الأمن الغذائي والتدهور الصحي، فضلاً عن وجود 3.7 ملايين طفل لاجئ خارج النظام التعليمي. لذا يجب اتخاذ إجراءات ضرورية من أجل إنقاذ مستقبلهم وحياتهم. والآن، يواجه آلاف من المتأثرين بالصراع والكوارث الطبيعية مصيراً غير معلوم.
على المنظومة الإنسانية بمكوناتها كافة أن تتحمّل حصتها من المسؤولية، من خلال البحث عن مصادر تمويل جديدة
تتمثل المعضلة الدائمة في أن الاستجابة الإنسانية لا تزال تفتقر إلى تحديد مخاطر "الظواهر المناخية المتطرفة" وآثارها، مثل الفيضانات والجفاف والتصحّر، وكذلك الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل في مناطق النزاع والحروب. نعتقد أنه من المطلوب تبنّي نهجٍ يدمج الاستجابة الإنسانية المبكّرة مع تقديم حلول شاملة تنموية طويلة الأجل في هذه المناطق. يضاف إلى ذلك ضرورة العمل على إيجاد نُهج جديدة تدمج عوامل النزاعات والكوارث الطبيعية بمقارباتٍ شاملة ومتكاملة للاستجابة الإنسانية. ومن الواضح الآن ضرورة الانتقال إلى نمط الاستجابة الاستباقية ورفع الجهوزية والاستعداد للكوارث. الالتزام بالاختصاص الموضوعي للمنظمات الأممية مهم، ولكن يجب أن يغطّي إحداها مهام الأخرى حال غيابها عن مشهد العمليات والميدان لأي سببٍ كان. فعلى سبيل المثال، من المسؤول عن ضمان الجهوزية والاستجابة في سورية طوال سنوات الأزمة والنزاع؟ وهل جرى بناء منظومة موازية تضمن جهوزية الاستجابة في حالات الكوارث؟ وماذا عن الوضع في اليمن وليبيا، وحتى في الدول التي لا تشهد نزاعاتٍ مسلحة؟
تجدر الإشارة هنا إلى أن الحلّ ليس منوطاً بالمؤسسات الإغاثية والدولية فحسب، بل بمكوّنات المجتمع الدولي كافة، من حيث وضع حدٍّ لأعمال العنف والاقتتال، والانتباه إلى الصورة القاتمة الكبرى التي تحيق بنا جميعاً. شبح الحرب العالمية الثالثة يخيّم على العالم، والوضع أصبح خطراً إلى درجة أن الدول بدأت توجيه موازناتها إلى الإنفاق العسكري والتسلح.
يعاني النظام الإنساني العالمي اضطراباً واضحاً يضع حياة كثيرين في دائرة الخطر
على المنظومة الإنسانية بمكوناتها كافة أن تتحمّل حصتها من المسؤولية، من خلال البحث عن مصادر تمويل جديدة، ومطالبة المانحين من الدول والقطاع الخاص ببذل المزيد لتغطية تكاليف أكبر عملية استجابة إنسانية في التاريخ، بالتزامن مع ترشيد النفقات، وتبنّي سياسات التدخّل المبكّر في الأزمات، وإدارة توقع الكوارث قبل حدوثها، لتجنّبها، ومحاربة الفساد المستشري في المنظومة، وتصميم البرامج التي تربط ما بين العمل الإنساني والتنمية والسلام.
أحد أهم الجوانب التي يجب القيام بها الرجوع إلى المجتمعات المحلية والقدرات المحلية في تصميم البرامج وتنفيذها، وهو ما يقلل من تكاليف الاستجابة الباهظة، والانتقال إلى المساعدات المالية دون العينية بشكلٍ أكبر، وتفعيل التحوّل الرقمي في أساليب الاستجابة. هذه خطواتٌ يستلزم البدء بها فوراً وعلى نطاقٍ واسعٍ في جميع مناطق النزاع والأزمات. ويبقى الجانب الأهم؛ وهو منع تفاقم الأزمات، الطبيعية ومن صنع الإنسان، ومعالجة جذورها، إلى جانب تبنّي مناهج عمل جديدة للاستجابة الإنسانية تدمج ما بين الصراعات والكوارث الطبيعية والتغير المناخي، وتأخذ في الاعتبار أثر ذلك في السلم والأمن الدوليين.
العلاقة بين النزاعات والكوارث الطبيعية والسلام
استمرار النزاعات والكوارث الطبيعية، وما ينبثق عنها من قضايا اللجوء والنزوح القسريين، واستمرار تراجع مؤشّرات الأمن الغذائي والتنمية البشرية والصحة العالمية والتعليم، وازدياد أخطار التغير المناخي والكوارث الطبيعية، يضع العالم في خطر عدم الاستقرار وانعدام الأمن العالمي، خصوصاً أن هذه الأزمات قد أثبتت تأثيرها السلبي الزاحف على مستوى عالمي وإقليمي لا على المستوى الداخلي للدول المتأثرة بهذه الصراعات والأزمات فقط. تُضاف إلى ذلك المسؤولية الدولية على عاتق المجتمع الدولي والعالم الغربي لدعم المتضرّرين من الأزمات، ومن ضمن ذلك التفكير بطرائق ووسائل أكثر استدامة لدعم المجتمعات المتضرّرة من الأزمات؛ من خلال تبنّي منظورٍ قائم على التمكين والحقوق والتنمية، واختيار مقارباتٍ تدمج بين العلاقة بين النزاعات والكوارث الطبيعية والسلام، وإلا ستكون النتيجة استمرار عدم الاستقرار، وانعدام الأمن، وهو ما قد يُنذر بتفجّر موجات العنف، وازدياد الاحتياجات الإنسانية مرّة تلو الأخرى في المناطق التي لا تزال فيها النزاعات والأزمات السمة السائدة. ومما يُفاقم من حالة التوتر والاضطراب في النظام الإنساني الدولي، ومما يزيد من المشهد الإنساني قساوة، الكم الهائل من المشاهد الصادمة التي نراها اليوم على الصعيد العالمي، نتيجة استمرار حالة العنف، تتزامن معها أخطار الكوارث الطبيعية، التي إذا ما لم يُستجب لها بنهج صحيح وشامل، فإنها تهدّد بانحسار فرص السلم الأهلي والعالمي.