ليلة الكريستال في حوارة
حينما انفضّ لقاء العقبة الأمني السياسي، قيل إن بيانا سيعلن عنه في ما بعد، عن النتيجة التي أسفر عنها، وبعد ساعات أعلن البيان، وجاء فيه ما تناقلته وكالات الأنباء ومنصّات الأخبار (في العرف المهني يعني التأخير في إعلان البيان أن هناك خلافا على صياغته، لأنه لا يعكس فعلا حقيقة ما جرى، بل هو موجّه إلى الاستهلاك المحلي). وهو، في المجمل، يخلو من أي عنصرٍ مدهش، فهو يتضمّن قوالب إخبارية مستهلكة، لاكتها ألسنة قرّاء الأخبار في الفضائيات آلاف المرّات خلال السنوات المنصرمة. ولعل أبلغ ما قيل فيه تغريدة الإرهابي إيتمار بن غفير عضو عصابة كاخ الإرهابية والوزير في حكومة نتنياهو: "ما كان في الأردن (لو كان) سيبقى في الأردن".
ولعل أبلغ ما في قول هذا القاتل ما أورده بين قوسين (لو كان)، فهو ابن العصابة الصهيونية التي أقامت الكيان، و"ابن بطني بعرف رطني" حسب المثل السائر، بمعنى أن ما "اتفق" عليه (إن اتفق على شيءٍ أصلا) لن يرى النور إلا بالقدر الذي يحقّق مصلحة الاحتلال، بغض النظر عن الثمن الذي سيدفعه الشعب الفلسطيني، تحقيقا لـ"خفض العنف" و"التهدئة" وهما ما تسعى الإدارة الأميركية إلى تحقيقهما.
دعونا من البيان الرسمي، ولنبحث عن "الزبدة" في اللقاء، فمن غير المعقول أن يجتمع مسؤولون كبار من الأردن والولايات المتحدة ومصر وفلسطين وكيان العدو من أجل صياغة ذلك البيان الذي يتحدّث عن تهدئة وخفض العنف ووقف "النقاش" في بناء المستوطنات، أشهرا قليلة، ناهيك عن تحقيق "السلام الدائم والعادل"، وهذه عبارة ليست فقط مفرغة من أي مضمون واقعي، بل غدت مثيرة للاشمئزاز والاستفزاز.
نجد الزبدة عادة ليس في البيانات الرسمية، بل في ما يتسرّب هنا وهناك، خصوصا في الصحافة العبرية، التي ربما تكون المصدر الوحيد لما يجري فعلا في الغرف المغلقة في الكيان. وبناء عليه، وحسبما كشف الإعلام العبري، ونقلته القناة العبرية "14"، فقد كرّس هذا الاجتماع لمناقشة الجوانب الفنية والمالية واللوجستية للخطّة التي وضعها المنسق الأمني الأميركي مايك فنزل لإعادة سيطرة سلطة رام الله على شمال الضفة الغربية، وخصوصا جنين ونابلس، و"تطهيرهما!" من المقاومة. وتقضي الخطة بتدريب نحو خمسمائة عنصر من الأجهزة الأمنية كـ"قوات خاصة فلسطينية"، للعمل داخل المدن والمخيمات في نابلس وجنين تحت قيادة غرفة عمليات مشتركة، بهدف استعادة سيطرة السلطة على المدينتين، والقضاء على المقاومة فيهما، حيث ستشارك الولايات المتحدة في التنسيق الأمني من خلال ممثلين كبار يوجدون في الاجتماعات بين السلطة الفلسطينية والكيان، ويرسل الطرفان تقارير منتظمة عن مراحل التطبيق. وتقضي الخطة بتقليص نشاط جيش الاحتلال بشكل كبير في إطار التنسيق الأمني المشترك بإشراف أميركي من أجل السماح للأجهزة الأمنية بالعمل في المنطقة. ويرافق هذا وقف محاولة السلطة فتح قنوات اتصال مع المقاومين، مقابل تسليم أسلحتهم وتقديم حوافز مالية لهم، ما يعني القتل أو الاعتقال. والهدف المُعلن أميركياً من هذا اللقاء الذي سيتكرّر في شرم الشيخ لمتابعة ما تم إنجازه على الأرض هو إيجاد صيغة لمنع "التصعيد"، أي المقاومة، من خلال محاولة تليين الموقف الفلسطيني وتقديم مخطّط عملي، وإقناع سلطة رام الله المتداعية بأن هناك فرصة للتغيير، ومنع حدوث تصعيد أمني في فلسطين (يعني انتفاضة ثالثة) ستؤثر بالتأكيد على "استقرار" الدول المحيطة بفلسطين!
لقاء العقبة مجرّد "مسكّن" مغشوش، لن يجلب غير مزيد من "العنف"
جاء لقاء العقبة في مجمله بشراكة أطرافٍ كلها متضرّرة بمقادير مختلفة مما يسمونه "العنف" والتصعيد، والمقصود هنا المقاومة الفلسطينية الشعبية التي تقودها "ذئابٌ متفرّدة" حسب التعبير الصهيوني، وكل من شارك بذلك اللقاء كان معنيا بالقضاء عليها، وإبقاء الاحتلال ينعم بالهدوء، وفق معادلة "السلام مقابل الطعام"، والتي بدأت أولا بـ"الأرض مقابل السلام"، لتختفي الأرض والسلام معا، ويبقى الاحتلال والاستيطان وسلطة حارسة لأمن الاحتلال، و"تسهيلات" لسواد الشعب للحصول على رغيف خبز لم يعد مغمّسا بالعرق والكرامة المهدورة، بل بالدم أيضا!
قبل أن يجفّ حبر الاتفاق، تم تفجيره على مستويين، الأول على صعيد المقاومة، حيث جاءت عملية حوّارة، وما تلاها في "ليلة الكريستال"، حيث هاجم المستعمرون الصهاينة حوّارة وأحرقوا البيوت والأملاك واعتدوا على حياة الآمنين، بالضبط كما قيل عما فعله النازيون يوم 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 1938، حين هاجموا أحياء اليهود، وكسروا زجاج بيوتهم وأحرقوها ونهبوها، ثم تلت هذه العملية عملية أريحا، لتقول للمجتمعين إن ما فعلتموه لن يمر، أما المستوى الثاني فكان رفضا عنجهيا من شركاء نتنياهو في الحكم من أعضاء العصابات المجرمة، ورفضا مبطّنا أيضا من نتنياهو نفسه، المنشغل بتتويجه ملكا على "إسرائيل" بكامل استحقاقات التتويج، فهو غير معنيّ بالالتزام بأي اتفاق، فهذا ديدُنه منذ دخل معترك السياسة، فهو كما قال له شارون يوما: "يا نتنياهو، من نصدّق، يدك اليمنى أم يدك اليسرى"؟
لقاء العقبة مجرّد "مسكّن" مغشوش، لن يجلب غير مزيد من "العنف" الذي عقد اللقاء من أجل خفضه، وهو فقط يؤخّر أو يؤجّل الانفجار الكبير، الذي ستكون ليلة الكريستال في حوّارة مجرّد "بروفة باردة" له. وبالتأكيد، لن يكون الضحايا من الفلسطينيين فقط!