ليلى سويف في مسيرتها من أجل الحرّية

26 نوفمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

في إضراب مفتوح عن الطعام قرابة شهرَين، تحتجّ الأكاديميةُ المصرية ليلى سويف، وتخوض معركةً جادّة للإفراج عن ابنها، علاء عبد الفتّاح، بعد أن قضى خمس سنوات سجيناً، منها عامان من الحبس الاحتياطي، ترفض السلطة احتسابهما من عقوبة "ترويج أخبار كاذبة"، حين نشر حول تعذيب أحد السجناء، وتحوّل بموجبها علاء، أحد شباب ثورة يناير (2011) البارزين، سجيناً مقيّد الجسد في مفارقة مؤلمة لكنها ليست الوحيدة. فحين احتجّ ضدّ صدور قانون تنظيم التظاهر (2013)، كان أول ضحايا التشريع الذي جاء ضمن سلسلة من قوانين تقيّد الحرّيات بدأ بها نظام 30 يونيو (2013) مسيرته، وحينها صدر الحكم بأقصى عقوبة، في إشارة إلى عنف مقصود، يقيّد الحرية، متزامناً مع حملة تشويه تستهدف إسكات صاحب الصوت العالي، المبدع أيضاً في أساليب الاحتجاج قبل الثورة، أرادت السلطة أن يكون مثالاً لإمكانية التنكيل لمن لا يخضع للضبط. بعد الإفراج عن علاء بأشهر، عاد إلى السجن مجدّداً في القضية الثانية، ومن المفارقات الدالّة في "المسيرة العسيرة" القبض على أحد أعضاء هيئة دفاعه، محمد الباقر، من أمام النيابة عام 2019، وحُبِس احتياطياً بتهم وجّهت إلى علاء، وبعدها بعام سجنت سناء سيف بتهمة التظاهر، حين كانت تقدّم بلاغاً للنيابة مطالبةً بتمكين أخيها من حقوقه متّهماً بحسب لائحة السجون، وظلّت قائمة التضييق على حقوقه سجيناً متواترةً تتضمنها بلاغات قدّمتها أسرته إلى جهات رسمية، النائب العام، وأخرى للمجلس القومي لحقوق الإنسان، غير المجلس القومي للمرأة، الذي رفض تسلّم شكوى بشأن مطالب ليلى سويف، وإضرابها عن الطعام، ما تبقّى لها من أدوات مع شكاوى وبلاغات ومخاطبة الرأي العام المصري والعالمي.

تريد كلّ سلطة استبدادية أن تُحدث قطيعة في مسار الحركة الوطنية وعزل شخوصها لخلق تشتّت وعجز

قضي علاء ربع عمره (43 عاماً) في السجن، عشر سنوات كاملة في قضيتَين، كلاهما يختصّان بقضايا حرّية الرأي والتعبير، لا تُهمَ بأعمال عنف أو إرهاب. بالمثل، هناك مئات الوقائع المشابهة استخدمت فيها ترسانة قوانين، قنَّنت القمع الذي طاول بعض رموز ثورة يناير، من أكاديميين وباحثين وصحافيين وقيادات أحزاب، تفاوتت فترات سجنهم، غير ظاهرة تكرّر القبض عليهم، كما حالات المهندس يحيى عبد الهادي والباحث الاقتصادي عبد الخالق فاروق، والقياديَّين في حركة 6 إبريل، شريف الروبي ومحمد عادل. وبشكل عام، شهدت مصر آلاف الحالات من تقييد الحرّية الممتدّة، طاولت شباباً ومسنّينَ، نساءً ورجالاً، في حلقة لا تنتهي يعاد إنتاجها، ينقص العدد ويزيد، يتخلّلها وعود بانفراجةٍ لا تأتي، وملفّ لا يغلق، لتستمرّ المظالم، رغم تبشير من أطراف بأن فترة الرئاسة الحالية، تتضمّن إصلاحات وتغييرات تشريعية تحقّق الإنصاف، لكنّ حملات القبض تتجدّد، يخرج سجناء ويدخل آخرون، ما يثبّت صورة الردع وسياسته، وكأنّ السلطة في حرب مستمرّة، والقمع أداتها للحكم ولإدارة المجتمع، تعتمد فيها على تسليط سيف الخوف، تقلق من أيّ حالة تعبير عن الرأي، حتى الذين دعتهم إلى الاحتجاج على العدوان على غزّة في ظلّ المقتلة، احتجزت منهم متظاهرين، ما زال بعضهم سجناء، بجانب آخرين محتجزين رغم أنهم لم يشاركوا في أنشطة مؤسّسات سياسية، وتركّزت مطالبهم في قضايا اجتماعية؛ الأجور والسكن ونزع الأراضي أو حتى الشكوى من ارتفاع الأسعار بمنشور في منصّة تواصل اجتماعية، فتعرّضوا للعقاب .
لذا، ليست قضية ليلى سويف فردية، فهي تسلّط بخطابها الضوء على حالة ابنها، وتناقش حالة المجتمع المحاصر بجدران من الخوف، وحالة علاء، وإن كانت شأناً شخصياً، مثال للتنكيل إذا ما تحدّى فرد أو جماعة سياسات السلطة وإرادتها، ضمن حالة النمذجة، وتستخدم أداة تحذير، فإذا ما أبدى شخوص ينتمون إلى المجال العام نهجاً فاعلاً وجادّاً في التعاطي والجدل مع ما يدور من أحداث وسياسات، وإبداء مواقف حولها، فسيكونون عرضةً للاستهداف، بما في ذلك من يتجاسر بالدعوة إلى إيجاد بدائل، حتى لو كانت ضمن النظام ذاته وفق الدستور والقانون، كما في محاولة البرلماني السابق أحمد طنطاوي الترشّح لرئاسة الجمهورية، وتالياً تأسيس حزب الأمل، فكانت النتيجة تقيد حرّيته بحكم بالسجن يمنعه مستقبلاً من العمل السياسي، وبتهمة هي تزوير مصوغات رسمية، أي إن العنف هنا لا يتضمّن حصار الحاضر هدفاً لأحداث سكونٍ مؤقّت، ولكن أيضاً مصادرة المستقبل في تحقق شروط للحياة بكرامة وحرّية للجميع.

رغم تبشير من أطراف بأن فترة الرئاسة الحالية، تتضمّن إصلاحات تشريعية تحقّق الإنصاف، يخرج سجناء ويدخل آخرون

وتبدو محاولةُ ليلى سويف، وكذا استخدامُها سلاح الإضراب وهي تقارب السبعين عاماً، مقاومة بالجسد رفضاً لتقييده، إعلاناً للحرّية، ومقاومةً للحصار، فعلاً يخاطب حالة المجتمع، وليس فعلاً فردياً وخاصّاً بها فحسب، بل يرتبط بحالة السجناء ويذكّر بواقعهم، ومن جانب آخر، نداء بالحرّية يتّصل بحلقات من النضال لجيل تنتمي إليه، حين انخرطت في الحركة الطلابية في السبعينيّات وما بعدها من مراحل تالية، وصولاً إلى ثورة يناير، ويتصل بأدوار مناضلات مصريات دافعن عن كرامة الإنسان وحرّيته ضمن مسار طويل من الحركة الوطنية تتوارثها أجيال، تريد السلطة، كل سلطة استبدادية، أن تحدث قطيعة بين مراحلها، وعزل شخوصها من أجيال عن الاجتماع البشري، لتخلق تشتّتاً وعجزاً، وفى سبيل ذلك تعزلهم في جدران السجون أو الصمت، بغرض الإذعان والتسليم بالأمر الواقع، كما حاولت مع أسرة أحمد سيف الإسلام، الذي كان دائماً منحازاً إلى الحرّية والعدالة، مطلبَين مترابطَين من دون فصل، أو تسويغ بأن التنمية تتطلّب الاستقرار وقبول الاستبداد، حتى لو مؤقتاً، لذا كان ضدّ الاستبداد وانتهاك كرامة خصومه قبل رفاقه.
وأخيراً، ليلى، الأمّ بالمفهوم الأسري، ودورها فى المجال الخاصّ، والمناضلة التي تخوض معركتها بتفاؤل وأمل وصمود في المجال العام، تستحقّ الفخر بها والتضامن معها، وهي تدفع ضريبةً غاليةً، وكان يمكن (تعرف دوائر السلطة ذلك) أن تختار طريقاً مغايراً، لكنّها اختارت بساطة العيش والانحياز إلى قيم الحقّ، متفائلةً لا تغيب ابتسامتها، وربّما تعتبرها مقاومةً في مواجهة الألم، ولحظات حزن، وهي تواجه مظالم متتالية، طاولت علاء الذي يقابل أسرته في زيارة كلّ شهر، نصف ساعة أو أقلّ لا تكفي لتبادل الحديث ولا لعناق تمنعه الحواجز، وتحرم ابنه خالد (13 عاماً) من والده. إنها صورة مكثّفة من الحصار، تريد كسر أسرة مصرية من الطبقة الوسطى، حلمت بالتغيير، لكن الحلم ذاته يُراد أن يُحتجَز أيضاً.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".