ماذا بعد تأجيل الانتخابات الليبية؟
كان تأجيل الانتخابات الرئاسية في ليبيا متوقعا، على الرغم من دفع أطراف دولية فاعلة نحو إجرائها في 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بالنظر إلى مؤشرات وأسباب عديدة، أهمها عدم توفر شروط إجرائها السياسية والقانونية، والتحدّيات التي واجهتها، بالنظر إلى أن الأطراف الليبية لم تكن مستعدّة للدخول فيها، وقبول نتائج ما تفرزه الصناديق الانتخابية، فالانتخابات لم تشكّل، في الأساس، مطلباً حقيقياً لها، في ظل استمرار الانقسامات السياسية والولاءات القبلية والمناطقية، وحالة الفلتان الأمني، ووجود قوات أجنبية ومجاميع من المليشيات والمرتزقة على الأرض الليبية. وبالتالي، لم تجد المفوضية العليا للانتخابات سوى التوجّه إلى مجلس النواب وطلب تأجيل الانتخابات، والإقرار بـ "استحالة إجراء الانتخابات في الموعد المقرر في قانون الانتخابات"، وذلك "بعد الاطلاع على التقارير الفنية والقضائية والأمنية ذات الصلة"، مع الدعوة إلى "إعادة رسم خريطة طريق تتماشى مع المعطيات والمتغيرات المترتبة على عرقلة الانتخابات"، بالرغم من أنها سبق أن أعلنت عدم وجود أسباب فنية ولوجستية تحول دون إجراء الانتخابات.
وكان لافتاً اللقاء الذي جرى في بنغازي، وجمع بين خصوم وأعداء قادوا الصراعات والحروب سنوات طويلة بين معسكري الشرق والغرب في ليبيا، وجميعهم كان مسجلّاً في قائمة المرشحين لانتخابات الرئاسة، وأصدروا بياناً أكّدوا فيه أن "المرشّحين اتفقوا على أن المصلحة الوطنية الجامعة فوق كل اعتبار، والمصالحة الوطنية خيارٌ وطنيٌّ جامع، لا تراجع عنه، واتفقوا على استمرار التنسيق والتواصل وتوسيع إطار هذه المبادرة الوطنية لجمع الكلمة ولم الشمل واحترام إرادة الليبيين"، وهو أمرٌ محمود ويسعد الليبيين لو صدقت النيات والتوجهات، لكن اجتماعهم المفاجئ، عشية الإعلان عن تأجيل الانتخابات، يثير أسئلة عن سرّ اللقاء وتوقيته، وعن طبيعة التفاهمات أو الصفقة التي جرت بينهم.
مسؤولية تأجيل الانتخابات الرئاسية الليبية وانعكاساته وتبعاته السياسية والأمنية تتحمّلها الأطراف المحلية والدولية
ومع الإعلان رسمياً عن تأجيل الانتخابات الرئاسية من دون تحديد موعد جديد لها، تطرح أسئلة عن مرحلة ما بعد التأجيل، وعمّا إذا كانت ليبيا ستطوي صفحة الانتخابات، ولو مؤقتا، وتدخل مرحلةً يُعاد فيها رسم خريطة القوى السياسية والعسكرية، من خلال تغييراتٍ تطاول تموضعها السياسي والعسكري، وبما ينتج مشهداً سياسياً وعسكرياً جديداً.
ويكشف واقع الحال في ليبيا أن مسؤولية التأجيل وانعكاساته وتبعاته السياسية والأمنية تتحمّلها الأطراف المحلية والدولية كافة، حيث باتت الأوضاع في ليبيا مرشّحة لمزيد من التأجيج والتأزم، خصوصا مع بروز مؤشّرات على انتقال الخلافات السياسية إلى الأوضاع الأمنية والعسكرية التي شهدت ارتفاع منسوب التوتر الميداني والتأهب في بعض المدن والمناطق. كما أن تأجيل الانتخابات الرئاسية جاء نتيجة محاولاتٍ جرت في الخفاء والعلن لإفشالها وعرقلتها من كل قوى الأمر الواقع في ليبيا، السياسية والعسكرية، الأمر الذي يكشف أن توافقها على إجرائها لم يكن بحثاً منها عن حل للصراع بينها، بل كان شكلانياً وهشّاً، ومناورةً من أجل تكبير الأدوار وتضخيم الأحجام، وبدافع الرغبة في تحقيق ما تريده بواسطتها بعد أن فشلت في الحصول عليه في المعارك والاقتتال، فضلاً عن سعيها إلى الاستحواذ على موقع في المنافسة على كرسي الرئاسة.
ويضع تأجيل الانتخابات القوى الدولية المتدخلة في الشأن الليبي والأمم المتحدة أمام خيارات محدودة، ويفرض عليها بذل جهودٍ من أجل التوافق على موعدٍ جديدٍ وقريب للانتخابات الرئاسية، واتخاذ خطواتٍ بغية التفاهم على محدّدات العملية الانتخابية، وتدارك الأخطاء التي وقع فيها مجلس النواب والمفوضية العليا للانتخابات والمجلس الأعلى للقضاء، والتي شكّلت نقاط خلاف بين القوى الليبية بشأن محدّدات الانتخابات وقوانينها ومرشّحي الرئاسة المثيرين للجدل، خصوصا سيف الإسلام القذافي وخليفة خفتر، إلى جانب احتواء تحدّيات التأجيل وتداعياته، تلك المتعلقة بمساعي بعض الأطراف السياسية والعسكرية الرامية إلى تغيير السلطة التنفيذية، والتي تواجه برفض أطراف وقوى أخرى، وتزيد من احتمالات دخول ليبيا في دوامة مواجهات وصراعات خطيرة.
القوى الإقليمية والدولية كانت ترغب في أن تشكل الانتخابات حلقة أخرى في مسلسل صراعاتها على ليبيا
وأمام بروز الخلاف حول حكومة الوحدة الوطنية والسلطة التنفيذية الحالية، والحديث عن الاتجاه نحو تشكيل حكومة انتقالية بديلة في شرقي ليبيا، إضافة إلى محاولات التوتير الأمني، وتحميل كل طرف في قوى الأمر الواقع الليبية الطرف الآخر المسؤولية عن التأجيل والتنصّل من مسؤوليته، سارعت الولايات المتحدة، على لسان مبعوثها الخاص وسفيرها إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، إلى القول إن الوقت "ليس هو الوقت المناسب لاتخاذ إجراءات أحادية الجانب، أو عمليات انتشار مسلّح تنطوي على خطر التصعيد، وعواقب غير مقصودة تضرّ بأمن الليبيين وسلامتهم"، مع حثّ كل الأطراف الليبية على التهدئة، والتعجيل بمعالجة العقبات القانونية والسياسية كافة لإجراء الاستحقاق الانتخابي. أما المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفاني ويليامز، فقد التقت أعضاء من "ملتقى الحوار السياسي"، الذي انتخب السلطة التنفيذية الحالية، سعياً منها إلى تدارك التداعيات على العملية السياسية، من خلال التأكيد على فتح نقاش "صريح حول العملية الانتخابية، وتنفيذ خريطة طريق الملتقى، مع الالتزام بدعم ومواصلة المضي قدماً، بناءً على موقف مبدئي يستند على خريطة الطريق، والحاجة إلى انتخابات حرّة ونزيهة وذات مصداقية".
والسؤال الذي بات يطرح في ليبيا: ماذا بعد تأجيل الانتخابات الرئاسية؟ وذلك في ظل تخوّف من أن يفضي الخلاف بشأن العملية السياسية إلى انهيار على الصعيدين، الأمني والاقتصادي، وعودة التسخين إلى جبهات المواجهة بين قوى الأمر الواقع المتصارعة، والتي تغذّيها تدخلات قوى إقليمية ودولية يسكنها هاجس المحافظة على نفوذها ومصالحها في ليبيا على حساب مصالح الشعب الليبي الذي يدفع ثمن صراعها من أمنه ومواد بلده المنهوبة رغماً عن إرادته، والذي كان يمنّي النفس في أن تشكّل الانتخابات بداية للخلاص من معاناته الأمنية والمعيشية المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات، وأن تفضي إلى إحداث تغييرٍ في التركيبة الحالية، وتحسين الأوضاع الأمنية والمعيشية، في حين أن القوى الإقليمية والدولية كانت ترغب في أن تشكل الانتخابات حلقة أخرى في مسلسل صراعاتها على ليبيا.