ماذا بعد موت الغرب؟
يفرح كثيرون منا كلما صدرت شهادة من أحد الغربيين يقول فيها إن الغرب ينهار، ويهتفون بحماس "وشهد شاهد من أهلهم"، وكأن العرب والمسلمين سيكونون الورثة "الشرعيين" للأرض وما عليها. ولكن، رغم هذه الملاحظة المنهجية، يبدو أن الغرب مهدّد بأمراض، فصدور كتاب "موت الغرب" للكاتب السياسي الأميركي، باتريك بوكانان، قد أثار القلق داخل الولايات المتحدة وخارجها. فقد أشار إلى الانقلاب الديمغرافي الحاصل على حساب البروتستانت والكاثوليك، وثانياً التغيّر المذهل في القيم الجماعية. وبقطع النظر عن المعطيات في الكتاب، بدأ السؤال المتعلق بمصير الغرب يُطرح منذ فترة طويلة، لكن الأكيد أن الغرب يترنّح، ومع كل أزمة يقال إنه سيسقط قريباً، ومن ورائه الإنسانية، لأن الحديث عن أزمة الغرب هو حديثٌ عن مستقبل البشرية، بحكم هيمنته على السياسة والاقتصاد، وبالخصوص على الثقافة والقيم الاجتماعية.
فرنسا هذا البلد الذي يدّعي التفوّق الحضاري منذ الثورة الفرنسية، يسودها حالياً خوف شديد من المستقبل. حتى لو افترضنا أن الأزمة الراهنة أطاحت ماكرون، فإن الذين سيرثون السلطة لن يختلفوا كثيراً في نوعية الثقافة السياسية السائدة التي مورست، فالأوضاع تتراجع وتزداد سوءاً، وقس على ذلك الأوضاع في مختلف الدول الغربية.
أزمة العالم العربي أعمق بكثير، فهو معلق من جديد بين قطبي الشرق والغرب، ظنّا أن الغرب قادرٌ على التخلص نسبياً من القبضة الأميركية، وهو اعتقاد متسرّع. يقف العالم العربي في منزلق خطير لا يعرف كيف سيتصرّف مع المتغيرات الجارية. هناك محاولة لتغيير التحالفات من أجل شقّ طريقٍ ثالث، بناء على تجربة البريكس التي يسعى إليها بعض العرب، مثل السعودية. لكن العرب لا يملكون شروط التحوّل إلى أحد الأطراف القوية والفاعلة، فذلك يفرض تغييراً في العقليات وفي الثقافة، وإعادة النظر في هندسة المجتمع، ومراجعة العلاقات العربية والدولية، حتى يجري القفز على التناقضات والألغام، فالتحوّلات الجارية قد تفيد أصحابها مؤقتاً، لكنها لن تخرجهم من الأزمة العالمية الممتدّة شرقاً وغرباً.
الدول العربية في حاجة إلى قيادات جديدة وشابة ومثقفة ومطّلعة على ما يجري في العالم، قيادات قادرة على بناء علاقاتٍ قد لا تكون متساوية، لأن ميزان القوى ما زال منخرماً، ولكنها تتمسّك بالحقوق وبالسيادة الوطنية. قيادات تعتقد أنها طرفٌ فاعل في قرية كبيرة مهدّدة بالصراع والحروب، وعليها أن تحسن الدخول في تحالفاتٍ غير عسكرية، قائمة على دعوة الجميع إلى حوار داخل هذه المجتمعات، حوار مفتوح مع المثقفين ومع أهل الخبرة في ميادين استراتيجية مهمة، وأن تكون مفتوحة على الشباب بالخصوص، لأن الشباب يتّجه نحو أن يكون الأكثرية، وأن يكون هو البوصلة التي تحدّد مسار الأحداث في العالم. إذ بدون هذا الحوار، وبدون هذه المراجعات الجذرية، فإن مصير هذه الدول والقيادات الحالية سيكون متعثراً، ولن ينتج شيئاً كثيراً على مستوى البناء الاقتصادي والتفكير الاستراتيجي على مستوى النظر البعيد، ولا بد أن نقر، رغم كل المشكلات التي حصلت في المرحلة الماضية، أن هناك بدايات تفكير جديد، وهناك بدايات حوار يجري بين بعض القيادات. ولكن هذا لن يكفي ما دام لم يرتبط ارتباطاً عضوياً بحدّ أدنى من الحرية والمعرفة والعلم، ومن تكثيف اللقاءات المهمة والسياسية والاستراتيجية بين مختلف الأطراف، فنحن الآن في ظل هذا الانهيار الغربي التدريجي الشامل، وفي ظل ضعف الأطراف الأخرى، بما في ذلك الصين التي قد يبدو لها أفقٌ أوسع ومستقبلٌ قد يكون أحسن، ولكنها أيضاً ما زالت بلداً ضعيفاً ولا يملك القدرات الأساسية، فالصين ليست النموذج المطلوب على مستوى الحرية والإبداع والقدرة على إعادة النظر في أسس تنظيم المجتمع. لم تعد الدول الحديثة تحكُم بالحديد والقوة والانضباط المفروض على الناس، وليس بثقافةٍ غير نابعة من أخلاقهم وقيامهم. لا بد من قيمٍ جديدةٍ حقيقيةٍ ترتكز عليها، وتقوم على توازن بين الدولة والمجتمع والفرد.