ماذا تريد "فاغنـر" الروسية من السودان؟
(1)
في أيام الرئيس السوداني المخلوع، عمر البشير، الأخيرة في الحكم، وقد تبيّن له أن عزلته ليس لها من نهاية قريبة، وأن فرفرة المذبوح لن يكون بعدها إلا إكمال الذّبح، تأهّب لهذا الذبح صاغراً مُستسلماً. ومن فرفراته في أيّامه تلك لجوءُه إلى الإمساك بملفات وزارة الخارجية السودانية، يديرها وحده، وبمزاجٍ متوجّسٍ مضطربٍ، ويقرّر فيها بإصرارٍ مَرضيٍّ، متجاهلاً الدبلوماسية المهنية، بل متعمّداً تغييبها تماماً. صارت ملفات وزارة الدبلوماسية من أهم ما يُمسك به الطاغية، يعيّن السفراء أو يعفيهم، ويرشّحهم بمزاجه على البلدان الأجنبية، أو يبقيهم مجرّد "أفندية"، لا لزوم لهم في دواوين الدولة التي يدير كلّ أمر فيها بنفسه. لم تُثر استقالة وزير الخارجية الذي عينه قبل نحو عام من سقوطه دهشة أحد، فيما كان ذلك الوزير أحد أركان نظامه الخلصاء.
تلك مقدّمة لازمة، قبل أن أحدّث عن جنوح الجنرالات الحاكمين في الخرطوم الآن، إلى تغييب وزارة مشغولة بحرب وشيكة بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا، يقرّر واحدٌ من جنرالات ذلك القصر الرئاسي في الخرطوم، القيام بزيارة لموسكو، في الساعات التي بدأت فيها الأخيرة غزو دولة أوكرانيا. وليست وزارة الخارجية في راداره، ولن يسمع لها إن أوصت بضرورة تأجيل تلك الزيارة.
(2)
ولأنّ العالم العاقل بعد ثورة الاتصالات والمعلوماتية، واندياحاتها مع الألفية الثالثة قد شهد تحوّلات كاسحة، فقد تأثرت أساليب الدبلوماسية التقليدية، فحلّت أساليب جديدة في إدارة العلاقات الخارجية الرسمية بين الدول. لقد لحقت بالدبلوماسية بعض ممارساتٍ كادت أن تُخرجها من نطاقها الرسمي، وتقحمها في أعمال خاصة، أو هي "الخصخصة" بعينها. من ذلك أن تنشئ دولة مؤسسات وكيانات مستقلّة عنها، تنشط في مجال علاقاتها الخارجية، وتمارس نشاطاً خارجياً، بما يشبه التدخل والتآمر في دول أجنبية، ولكن تلك الدولة تعفي نفسها رسمياً من تحمّل أية مسؤولية عن تلك التدخلات والمؤامرات.
وقد نشرت "مجموعة الاستقصاء في النزاعات"، وهي جماعة إلكترونية لها موقع باسم "الجبهة الشعبية (popular Front)، مقالاً لخبير اسمه جيمس بنجهام، في موقعها الإلكتروني، أن مجموعة فاغنر الأمنية، من منشئها في روسيا الاتحادية، كيان لا صلة رسمية له في العلن مع الحكومة الروسية، لكنه على صلة خفية بوزارة الدفاع الروسية. وحسب الموقع الإلكتروني، فإنّ لروسيا الاتحادية شركات ذات طبيعة أمنية مستقلة في العلن، ولكنها تحمل، في الخفاء، تفويضاً للانخراط في نشاطات خارجية، تخدم مصالحها. إحدى هذه الشركات الأمنية "مجموعة فاغنـر" التي يديرها فلاديمير أوتكين، ضابط الأمن السابق المقرّب من الرئيس فلاديمير بوتين.
أكد رئيس الأمن في أوكرانيا، فاسيل هريزاك، أن لشركة فاغنر الأمنية أكثر من 300 عنصر يعملون في السودان منذ ديسمبر 2017
من الممارسات الغريبة للبشير قبل سقوطه بسنوات، لقاؤه وفداً مشبوهاً، جاءه من موسكو، ممثلاً لشركة فاغنر المذكورة. وهو لقاء مشبوه، لأنه تجاوز الأجهزة الرسمية عمداً، فقد جرى مباشرة في القصر الرئاسي، من دون أن يعرف أيّ طرف سوداني رسمي، فيما تباحث الرئيس مع الوفد المريب القادم من موسكو، والسفير الروسي ليس هناك، ووزارة الخارجية في الخرطوم لا تعلم.
(3)
لحقتْ بمحموعة فاغنر المشبوهة عقوبات من وزارة الخزانة الأميركية، بسبب أنشطتها المريبة في دول أفريقية عديدة. ومعروف أنها توفّر حراسة أمنية خاصّة لرئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، ولها ذراع أخرى باسـم "إم. إنفست"، وهي شركة خاصة تنشط في نقل الماس (ومعادن أخرى) وتهريبه من ذلك البلد، بطائرات خاصة صغيرة من مناطق غرب أفريقيا عبر الأجواء السودانية إلى اللاذقية في سورية، ومنها إلى روسيا. ولتيسير هذا، تؤكد تقارير أمنية استقصائية، أن تلك المجموعة تواصلت مع السلطات في السودان، لتقديم خدماتها. وفي المقابل، حصلت على تعاقدات مع الحكومة السودانية لتدريب عسكري لبعض فصائل من "قوات الدعم السريع"، وهي قوات سودانية تطوّعية وشبه عسكرية، تتبع للجنرال الذي زار موسكو يوم اجتياحها أوكرانيا. تلك هي القصة إذاً.
(4)
في النّصف الثاني من عام 2018 في الخرطوم، وبعد اندلاع التظاهرات المعارضة لنظام البشير، نسقت تلك المجموعة خدماتها عبر الأجهزة الأمنية السودانية في التصدّي لتلك التظاهرات. ويؤكّد ذلك ما نشرته صحيفة التايمز البريطانية في 10 يناير/ كانون الثاني 2019، أنّ مرتزقة بسحنات قوقازية شوهدوا يشاركون في التصدّي للاحتجاجات التي تزايدت في الخرطوم أواخر عام 2018، قبل سقوط البشير بثلاثة أشهر، وذكرت الصحيفة أنهم مرتزقة من روسيا. صحيفة أخرى هي "سودان تريبيون"، نشرت، قبل خبر "التايمز" بثلاثة أيام، أنّ خبراء من روسيا يعملون في تدريب عناصر في الأجهزة الأمنية السودانية.
وفي خطوة لافتة، نفت ناطقة رسمية باسم الخارجية الروسية، في 23 يناير/ كانون الثاني 2019، أيّ تدخل لحكومتها في الشأن السوداني، لكنها ألمحت إلى أن عناصر من شركة أمنية خاصة، ربما كانت تعمل في مجال تدريب أمني في السودان، ولكن لا صلة لها بالحكومة الروسية، غير أن رئيس الأمن في أوكرانيا، فاسيل هريزاك، أكد أن لشركة فاغنر الأمنية أكثر من 300 عنصر يعملون في السودان منذ ديسمبر/ كانون الأول 2017.
من الممارسات الغريبة للبشير قبل سقوطه بسنوات لقاؤه وفداً مشبوهاً، جاءه من موسكو، ممثلاً لشركة فاغنـر
وقد وقّعت شركة "إم. إنفست"، الروسية المتخصّصة في المعادن، اتفاقيات مع وزارة المعادن السودانية عام 2017، ومعروفة صلتها بمجموعة فاغنر، وتورّطها في عمليات مشبوهة في تهريب الذهب، وربما معادن أخرى، بطائرات صغيرة تطير بين السودان إلى اللاذقية في سورية، ومنها إلى روسيا.
(5)
على تلك الخلفية الملتبسة، تابع المراقبون زيارة ذلك المسؤول السوداني الرفيع لموسكو، صبيحة اجتياح القوات الروسية أوكرانيا. لم يكن أمام ذلك المسؤول إلا أنْ يصرّح مؤيّداً الغـزوة الروسية، بحجّة أن روسيا تدافع عن سيادتها. لا بدّ أن جهة رسمية، ربما في وزارة الخارجية في الخرطوم، قد أوصتْ بتأجيل تلك الزيارة لأسبابٍ تتصل بالظروف الأمنية التي لن يجد مسؤولٌ روسيٌ معها وقتاً ليتباحث مع مسؤول سوداني في علاقات بلاده مع السودان.
خلاصة الأمر أن المراقبين يقرأون قراءة صائبة زيارة ذلك المسؤول السوداني الرفيع الذي يقدّر جيداً تلك الجمائل التي قدمتها إليه "فاغنر"، فتهبط طائرته في اليوم الذي اجتاحات، في فجره، القوات الروسية، أراضي أوكرانيا. هي زيارة لرد الجميل ولتأييد الموقف الروسي أكثر منها بحث العلاقات الثنائية. لكن ذلك موقف أثار حفيظة الاتحاد الأوروبي ودول الترويكا التي كانت قد تعهّدت جميعها بمساعدة السودان، لكنها عزفتْ عن ذلك الآن. وتصرّفات الجنرالات تعكس تخبّطاً لا سقف له، ولن يجني من ورائها السودان إلا الشّـوك والحصرم.