ماذا فعلت بنا غزّة؟
من لم تغيّره غزّة، فليراجع إنسانيته وعقيدته..
السؤال الذي ما فتئ يلحّ على كل منا، أو على الأقل على من بقي لديه شيءٌ من الحسّ الإنساني، ماذا فعلت بنا غزّة، بعد ما فعلت الأفاعيل بأهلها؟ كيف من الممكن أن نعيش حياتنا الطبيعية ونحن منذ مائة يوم ويزيد نرقُب المشهد الأكثر دمويةً ووحشيةً وغرابةً في التاريخ الحديث؟ هل يمكننا حين نجلس إلى مائدة الأكل، ونتناول ما لذّ وطاب من الأطعمة، أن لا نستحضر بشرا مثلنا لم يروا رغيفا ساخنا، أياما أو أسابيع أو أشهر؟ دعك من الذين "رحمهم" الله ومضوا إلى ربّهم قصفاً أو جوعاً أو عطشاً أو مرضاً، أو قنصا، ماذا عن الذين بقوا يتجرّعون مرارة فقد الأحبّة، وأبسط مستلزمات الحياة الطبيعيّة، من مأكل وملبس ومأوى، و"أمن" ولا مكان آمنا في غزّة، ولا أكل أو ماء أو ملبس بالسهولة التي يعتادها البشر العاديون؟ بعضنا لا يستطيع أن يصحو من غيبوبة النوم من دون أن يأخذ حمّاما ساخنا وفنجانا من القهوة، ماذا عمن يحلم بوجبة طعام، أي طعام، حتى ولو كان طبقاً من العدس "يجود" به أحدهم، وينتظر من يحصل عليه ربما ساعة أو أقلّ أو أكثر، ليعود بوجبة يتحلّق عليها أطفاله؟
هي أشياء صغيرة، أو هكذا تبدو، فما بالك بملايين التفاصيل اليومية التي نمارسها، من دون أن ننتبه إلى أن ثمّة إخوة لنا، على بعد صرخة أو أنّة، لا يمكن أن يحصلوا عليها إلا بشقّ الأنفس؟ إن حصلوا عليها طبعا، دعك من مشاهد الموت اللحظي التي تُحاصر مليوني إنسان، أنّى توجّهوا، وحيثما نظروا!
ما الذي تغير بعد غزة؟ كل شيء، بلا استثناء، غزّة غيّرت حياتنا، غزّة لم تقلب موازين السياسة والحرب في العالم. غزّة قلبت حياتنا رأسا على عقب، منذ مائة ويوم وعشرة أيام لم يعد (أنا) هو أنا. لم نعد نستطيع أن نعيش كما كنّا وفق روتيننا الماضي، كل شيء تغيّر. أقسم أنني لم أضحك من قلبي منذ مائة يوم إلا مرّة أو مرّتين. وبالغلط.
أعادت غزّة صياغة كل شيء. غزّة تستحقّ النصر، ليس فقط لأنها صمَدت مائة يوم خلت، ولا تزال مترعةً بالصمود، بل لأنها أعادت صياغة كل شيءٍ
أعادت غزّة صياغة كل شيء. غزّة تستحقّ النصر، ليس فقط لأنها صمَدت مائة يوم خلت، ولا تزال مترعةً بالصمود، بل لأنها أعادت صياغة كل شيءٍ، ليس في حياتنا نحن، عربا ومسلمين، بل في حيوات ملايين البشر في العالم.
في اختبار غزّة ثمّة من نجح، ولكن كثيرين سقطوا، أولهم وربما أهمهم النظام العربي الرسمي الذي انحاز بشكل فادح للعدوان من دون أن يرف له جفن، وهكذا تخفّف من أي شرعيةٍ لاستمراره، وقال لنا بملء الفم إنه منحاز للجهة التي لا نقف فيها نحن الشعب، قال لنا، بلغةٍ لا تقبل التأويل، إن رأينا ليس مهما، ولا مشاعرنا ولا دم إخوتنا، وإنه مستعدٌّ، عمليا، للتضحية بنا كُرمى لعيون الكرسي الذي يجلس عليه. ثانيهم بعض الأنظمة التي عوّلنا عليها، واعتقدنا أننا نخبّئها ليومنا الأسود، كتركيا مثلا، التي لطالما تغنّينا بمواقفها "الصلبة" بقيادة "السلطان" أردوغان، الذي فتح لنا بابا من أبواب الأمل، سرعان ما صفقه في وجوهنا، فأثبت أنه ظاهرة صوتية، بالنسبة لقضايانا نحن العرب والمسلمين. صحيحٌ هناك حساباتٌ خاصّةٌ به وببلاده، وهي مشروعة، لكن إحساسنا أيضا بالخذلان مشروعٌ هو أيضا، فحتى تهديدُه الدائم بمحاكمة الكيان الصهيوني في المحاكم الدولية لم يقم به، و"تطوّع" به نظام جنوب أفريقيا الذي لا هو عربي ولا مسلم.
ثالث الساقطين المنظومة الأخلاقية الغربية التي أشبعتنا مبادئ ومواعظ عن حقوق الإنسان والقانون الدولي "الإنساني!" وسوى هذا من أخلاقياتٍ ثبت أنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، وأنها خاصة بالعرق الأبيض دون سواه.
في اختبار غزة ثمّة من نجح، ولكن كثيرين سقطوا، أولهم وربما أهمهم النظام العربي الرسمي الذي انحاز بشكل فادح للعدوان من دون أن يرف له جفن
رابع الساقطين كل التنظيمات الفلسطينية أو معظمها، التي تحوّلت إلى أحزاب بيانات وزعامات "تاريخية"، وفي مقدمتها حركة فتح، فقد كنست غزّة كل حب لهذه التنظيمات من قلوب الملايين الذين تطلعوا لها باعتبارها ممثلهم "الشرعي والوحيد" وتم "تكييش" كل ذلك الأمل والحب للتنظيمات التي ناجزت العدو وقهرته وصمدت في وجه آلته الحربية المتوحّشة، وألحقت به أذىً لن يزول، وتركت في وجه كل صهيوني ندبة ستذكّره ما حيي ببصمة المقاومة وقوتها.
أما خامس الساقطين فتنظيمات "الجهاديين" الإسلامويين الذين يتمرجلون على المسلمين العزّل بعملياتهم التفجيرية العمياء، ولم نسمع لهم صوتا في ذروة الحالة الجهادية الحقيقية في غزّة، ولم يفلحوا إلا في "جهاد النكاح" وزواج "السبايا" وقطع رؤوس الأبرياء بتهم ملفقة، هؤلاء "الجهاديون" لم نر جهادهم في ذروة جهاد غزّة، فإن لم يظهر هذا الجهاد اليوم فمتى؟
سادس الساقطين فعلا وقولا شيوخ السلاطين من عبيد الأوثان الجدُد الذين يسمّونهم "أولياء الأمر"، ويعتبرون طاعتهم واجبة حتى في عهرهم وخيانتهم الأمة، وإمعانهم في إيقاد نار الفتن وشقّ الصف، وتبديد ثروات الأمة في مشروعاتٍ سخيفةٍ تعبّر عن أحلامهم المريضة وشهوتهم لجمع المال، وقهر العباد، فكيف يمكن، من بعد، سماع خطبهم وجعجعاتهم ومواعظهم؟
نحن الآن لسنا بصدد تحرير القدس فقط، بل ما بعد بعد تل أبيب فعلا لا قولا
أما سابعهم فهو "كلبهم" من نخب السلاطين و"مؤثري" شبكات الإعلام الشعبي والتقليدي، من بائعي الفكر المخصي، وثقافة الشهوة، وتشويه الوعي الجمعي وإفساد الذوق العام، وبيع "منجزات" أنظمة القمع والإرهاب، وكنّا نظنّ، وهو إثم هنا تحديدا، أن "طوفان الأقصى" كان كفيلا بإيقاظ ضمائرهم إلا أن ظنّنا غفل عن أنهم بلا ضمير أصلا، فأنّى له أن يصحو؟
أما الخاسر الأكبر قبل هذا كله في معركة غزة وبعده فهو ما سمي "السلام" والتطبيع، فقد بدا هذا الشيء وهماً ذرته رياح غزّة وعواصفها وأوجدت واقعا جديدا، هذا الواقع قبل غزّة وطوفانها، كنا نتطلع فيه لتحرير القدس، لكننا اليوم بتنا نتطلع لتحرير صفد ويافا وتل أبيب والكرمل، قد يبدو هذا الكلام متّسعا أكثر من اللازم، ولكنه بعد غزّة وطوفانها غدا قريبا وواقعيا، جدا!
نحن الآن لسنا بصدد تحرير القدس فقط، بل ما بعد بعد تل أبيب فعلا لا قولا . ... قد يبدو هذا الكلام متسعا أكثر مما يجب. لكنه واقع جديد فرضه الطوفان. غزّة غيّرتنا، وغيّرت العالم، وهي تتعرّض لحرب عالمية كبرى، وهي بمساحتها الصغيرة قد لا تزيد عن مساحة "مول" في دولة كبرى، ومع هذا تصمُد وتناجز وتنتصر، فأنّى لها أن لا تغيّر كل شيء؟