ماذا لو كانت حماس يسارية؟
أسقطت حربُ غزّة آخر أوراق التوت عن النخب العربية الحاكمة، بعد أن تُرك سكّان غزّة لمصيرهم في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية. والمؤكّد، أيضاً، أنّها كشفت منسوب البؤس الفكري والسياسي الذي يقيم فيه قطاعٌ عريضٌ من اليسار العربي، رأى في هذه الحرب فرصةً لتصفية حساباته الأيديولوجية والسياسية مع الإسلام السياسي في الإقليم، من دون أن يكلّف نفسه عناء توسيع دائرة الرؤية، طالما أنّ الأمر يتعلّق بصراع تاريخي ومركّب بحجم الصراع مع دولة الاحتلال.
يرى اليسار العربي أنّ حركات التحرّر لا يمكن أن تكون إلّا يسارية، فالكفاح المسلّح يقتضي وجود تنظيم يساري طليعي، تلتفّ حوله القوى الشعبية المُضطهَدة من قوى الاستغلال الطبقي والرأسمالي، فيكون قادراً على التعبئة والتحشيد وقيادة الكفاح من أجل نيل الاستقلال الوطني. أمّا أن تتّخذ حركةُ تحررٍ شكل تنظيم جهادي وعقائدي، كما هو الحال بالنسبة إلى حركة حماس، فذلك ما لا يقبله اللاوعيُ اليساري، حتّى لو كانت حركة التحرّر، هاته، تواجه واحدةً من أكثر القوى الاستعمارية شراسة في التاريخ.
أربك الهجومُ الذي شنّته المقاومة الفلسطينية في العمق الإسرائيلي في 7 أكتوبر (2023) اليسار العربي. وسرعان ما تبدّدت حالة الارتباك تلك، بعد أن وجد هذا اليسار في سردية ''خدمة حماس الأجندة الإيرانية'' مخرجاً، حتّى لو كان ذلك يتقاطع مع مواقف أنظمةٍ وقوى وجهات عربية وغربية. وبعد انصرام أشهر من حرب الإبادة الممنهجة على قطاع غزّة بدعم إقليمي ودولي مفضوح، بدا لهذا اليسار أنّ "حماس" أخطأت تقدير الحسابات، وكان عليها أن تتوقّع ردّة الفعل الإسرائيلية على ''طوفان الأقصى''، في تناسٍ لما كان يقوم به هذا الكيان من اعتداءات على المسجد الأقصى، على درب تنفيذ مخطّطاته في الاستيطان والتهويد والأسرلة.
لا يرى اليسار العربي أيّ منطق في الربط بين "7 أكتوبر" والجرائم التي ارتكبتها دولة الاحتلال في مدن الضفّة الغربية وبلداتها، والحصار الظالم الذي تفرضه على قطاع غزّة منذ 2007، وتغوُّل اليمين الديني الصهيوني الذي يربط وجود إسرائيل وبقاءها باجتثاث الوجود الفلسطيني. كان لافتاً اصطفاف هذا اليسار، مع استثناءات قليلة، مع خطاب غربي رثّ يتباكى على المدنيين الإسرائيليين الذين سقطوا في هجوم "7 أكتوبر"، والذي أثبتت تحقيقات إسرائيلية أنّ عدداً منهم قتلوا بنيران الجيش الإسرائيلي من طريق الخطأ.
يعتبر هذا اليسار أنّ تراجع خطابه في الإقليم أنتج واقعاً مركّبا منح، من جهة، النظامَ الرسمي العربي (الرجعي) هامشاً أوسع لتعزيز تحالفه مع دول المركز الرأسمالي في الغرب ودولة الاحتلال، ومن جهة أخرى، فسح المجال أمام صعود الإسلام السياسي بمختلف تنظيماته المعتدلة والمتشدّدة والجهادية. وهو ما يعني، وفق منظوره، أنّ المعركةَ التي تخوضها حركة حماس في مواجهة العدوان الإسرائيلي خاسرةٌ من الأساس، أو بالأحرى، ينبغي أن تكون خاسرة في نهاية المطاف، لأنّ من يقودها تنظيم إسلامي رجعي وليس يسارياً ثورياً.
قد تكون تنظيمات اليسار التونسي الوحيدة، من بين تنظيمات اليسار العربي، التي لم تتردّد في اعتبار "حماس" حركة تحرّر وطني تقود الكفاح الفلسطيني في هذه المرحلة من الصراع مع العدو الصهيوني. غير أنّ اليسار العربي في معظمه يرى "حماس" حركة رجعية، وبالتالي، فقضاءُ إسرائيل عليها يُكرّس الوضع الجيوسياسي الذي ترتّب عن فشل الربيع العربي، وهو المطلوب وفق منظوره. لو كانت "حماس" يساريةً لَعَدَّها هذا اليسار حركةَ تحرّر وطني تناضل لأجل دحر دولة الاحتلال، باعتبارها ذراع الرأسمالية المتوحّشة في نهب ثروات شعوب المنطقة ومقدراتها.
من المفروض ألّا يقف الخلافُ الفكري والأيديولوجي والحزبي حجر عثرةٍ أمام معركة التحرير، التي يخوضها الشعب الفلسطيني منذ عقود، فالاختلاف حول المشروع المجتمعي والديمقراطية والاقتصاد وحقوق المرأة، وغيرها، ينبغي أن يكون في خضمّ التدافع السياسي والاجتماعي، الذي يفترض وجود دولة فلسطينية مستقلّة. إنّ ما تقوم به "حماس" في حرب غزّة خطوة غير مسبوقة في درب التحرّر الوطني الفلسطيني، رغم تكاليفها التراجيدية.