ماذا وراء عودة الإرهاب في تونس؟
رغم الاحتياطات الأمنية، عاد الإرهاب البغيض ليضرب تونس في منطقة حسّاسة بحكم رمزيتها الدينية والثقافية، إلى جانب البعد الاقتصادي. كانت ضربةً غير متوقعة، قام بها رجل أمن راوغ زملاءه، وغالط الجميع، لينفذ جريمته بطريقة جنونية.
تجنّب رئيس الدولة وصف ما حدث بالعملية الإرهابية، رغم أن الكلمة التي ألقاها أمام مجلس الأمن القومي كانت مشحونة بكلمات وبأمثلة لا تنطبق إلا على الإرهاب بدرجة أساسية. لماذا هذا التوصيف غير الدقيق للحادثة من أعلى هرم الدولة؟ سؤال شغل الجميع في تونس وخارجها.
يبدو أن هناك منطقة ظل تتجنّب السلطة تسليط الضوء عليها، فالمعلومات التي قدّمها وزير الداخلية في الندوة الصحافية كانت عادية جدا ومختزلة جدا، ولا تستجيب لتساؤلات الصحافيين والرأي العام. وهو ما زاد الأمر غموضا، خصوصا بعد رفضه منح فرصة للإعلاميين لعرض أسئلتهم. فالحدث لم يكن بسيطا، حيث بلغ عدد الضحايا خمسة، وتحقّقت بعض أهداف العملية، حيث أصيب زوّار الغريبة، في نهاية حجّهم، بحزنٍ وكآبة، واحتلت تونس صدارة الأحداث، رغم تعدّد البؤر الساخنة في العالم. لقد صدم الجميع بما حدث.
كانت أوساط حركة النهضة الأكثر خوفا من أن يقع توريط الحزب في الجريمة، أو أن يكون لأحد شبابها يد في العملية. لهذا سارع مكتبها التنفيذي إلى التنديد بها قبل الكشف عن تفاصيلها. مع ذلك، حاول خصومها إثارة الغبار حولها بطرق متعدّدة. لقد وجدوا في الأمر فرصةً لمزيد من حشرها في الزاوية من خلال العودة إلى السنوات العصيبة التي مرّت بها البلاد بعد الثورة، فشقّ منجي الرحوي في حزب الوطنيين الديمقراطيين اليساري أصدر بيانا اعتبر فيه ما حدث "حلقة أخرى من حلقات استهداف الدولة منذ صعود حركة النهضة الإخوانية إلى الحكم، وما رافق ذلك من نشر للإرهاب عبر اختراق أجهزة الدولة، وتشكيل عصابات أمنية موازية وشبكات التسفير". ولم يتم الاكتفاء بذلك، بل أشار البيان إلى أن عملية الغريبة "تزامنت مع الشروع في المحاسبة القضائية لرموز الإرهاب، وعلى رأسهم راشد الغنوشي، وهو ما يؤكد مرة أخرى لجوءهم إلى العنف".
في مثل هذه الأوضاع التي تمر بها تونس، يلجأ العقلاء إلى إيقاف النزيف، ودعوة المواطنين إلى تحكيم العقل وتجاوز الضغائن، وتغليب المصلحة الوطنية. وهو ما فكّر فيه وزير السياحة السابق، وأحد رموز النخبة اليهودية التونسية المستنيرة والمعتدلة، روني الطرابلسي. دعا بعد الحادثة مباشرة إلى "توحيد الصفوف ومزيد العمل على مبدأ التعايش بين الديانات الذي لن يزعزعه أي إرهابي أو عمل إجرامي". وما أن تفوه بتلك الكلمات حتى تلقفه بعض من الاستئصاليين، وانتقدوه بقوّة، وطالبوه بتعديل خطابه، والتخلي عن أية إشارة إلى الحوار مع الإسلاميين. من وجهة نظرهم، لابد أن يغلق هذا الباب نهائيا، ولا يفتح أبدا مهما حصل في البلاد.
هذا النوع من التفكير العدمي، القائم على الانغلاق ونشر العداوة بين التونسيين، هو الذي سيقود الوطن إلى كوارث كبرى. وهو ما حاولت مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش في تونس إيضاحه، حين قالت "بعد شيطنة حزب النهضة، وتوجيه اتهامات خطيرة له من دون دليل، انتقلت سلطات الرئيس قيس سعيّد إلى تفكيكه فعليا، فالتكتيكات الأخيرة التي تتبعها السلطات، بغية إسكات الأصوات المنتقدة، ارتكزت على توجيه تهمة التآمر يمينا شمالا، وضد كل من يتحدّى نزعة الاستبداد المتزايدة لدى الرئيس".
الإرهاب مرفوض، ومدان مهما كانت دوافعه، فتونس لم تعد تتحمّل مزيدا من التقسيم وإثارة الفتن، بمختلف ألوانها وشعاراتها. وللقطع أمام عودة كرة النار إلى الملعب السياسي، يجب المزيد من اليقظة الأمنية وسد الثغرات، ومراقبة جديدة لجميع البوابات التي يمكن للتطرّف الديني وغيره بما في ذلك المؤسّسة الأمنية العسكرية النفاذ منها. وفي المقابل، يجب التذكير بأن المعالجة الأمنية وحدها لا تكفي، والتجربة التونسية شاهدٌ على ذلك. تنقية المناخ السياسي شرطٌ لابد منه، حتى ولو عارضه كثيرون.