ماركيز أم ابنة كاسترو؟

27 نوفمبر 2016

ألينا ابنة كاسترو (Getty/1/3/2000) وماركيز (6/3/2014/فرانس برس)

+ الخط -
ثمّة كثيرٌ في سيرة فيديل كاسترو يستثير الإعجاب، وقد يسوّغ بعضُه الانبهار بشخصه. وإذا كان ثمّة قسطٌ من المبالغة في ذيوع أنه نجا من 836 محاولة اغتيال، فإن عدداً أقلّ سيجعلك أيضاً مندهشاً. ولكنك إذا كنتَ تقيم على مناهضةٍ للطغيان والتسلط والاستبداد، مبدئيةٍ وأخلاقيةٍ، فإن الزعيم الكوبي العتيد سيصير منقوصَ المكانة الخاصة بين الثوار و"الأمميين" الشجعان في العالم. أما إذا اتّصفتَ بحساسيةٍ ديمقراطيةٍ عالية، فإنك ربما ستزدري من أبقى نفسه في السلطة نحو خمسين عاماً. وأياً يكن الأمر، فإن من غير الإنصاف، ولا المناقبيّة، أن يتم إيجاز فيديل كاسترو في صفةٍ دون أخرى، على أنه لن يكون في وسعك أن تزيح عن بالك سمتَه الدكتاتوري، ولا سيّما إذا كنتَ ممن لا يعتنقون الثوريّة السمجة، أي تلك التي لا تولي حريات الإنسان وحقوقه أي شأن. 

من بين وجوه كاسترو المتنوّعة، ثمّة الأب الذي تحكي عنه ابنتُه، ألينا، والتي تقيم في أميركا منذ هروبها من تجبّره في كوبا، متنكّرةً حليقة الشعر، وبجواز سفر إسباني مزوّر قبل ثلاثة وعشرين عاماً. وثمّة القائد الذي يحكي عنه صديقُه أزيد من ستة عقود، غابرييل غارسيا ماركيز، إذ يمحض ملكاته وقدراته إعجابا ظاهراً. وأن تضنّ امرأةٌ على أبيها بتسميته أباً، في كتابٍ عنه دوّنته في صيغة رسالة طويلة إليه، أمرٌ يستنفرُ، ربما، حنقاً على الاثنيْن. صورةُ هذا الأب "المدمن على أكل الشوكولاته.. الفاخرة" بالغةُ الشناعة، كيف لا وهو الذي، بحسب ابنته وغيرها، "بإشارةٍ من إصبعه أرسل رفاقاً قدامى له إلى الإعدام". إنه "شخصٌ أنانيٌّ يحبّ السلطة، غير قادر على منح الحب لا لأبنائه، ولا لأحد". تعتبر ألينا والدَها المذنبَ الوحيد الذي بسببه فشلت في كل شيء (بحسب تعبيرها)، ومن ذلك فشل زيجاتها الأربع (!). كانت في الثالثة منهن حاملاً، وأمرها والدها، وهو الرئيس وقائد الثورة (الكومندانتي بحسب التسمية الشهيرة)، بالإجهاض، لأن الزوج، والد الجنين، يعمل راقصاً.
أما الروائي الشهير، ماركيز، فلا يرى شيئاً من هذا كله في شخص صديقه كاسترو. أو على الأصح لا يلتفتُ إلى أمور التسلط هذه، ولا إلى عدم تقبّل "الكومندانتي" الانتقاد، ورفضه الحوار، على ذمة ابنته تلك. يكتب ماركيز عن "حالةٍ من الظرافة لدى كاسترو لا تُقاوم وتسحر العقول". وأنه "لا يوجد أي مشروعٍ عملاق، أو متناهي الصغر، ولا ينخرط فيه بشغفٍ محموم". يكتب أيضاً عن العبقرية والمزاج الرائق لدى كاسترو عندما يجتمعان. يزيد ماركيز في الثناء على صديقه الذي تعرّف إليه في 1948، وصمدت صداقتهما وتوطّدت، وحافظ الاثنان على دوام اللقاء والحوار، ما وسعهما ذلك، يزيد إن كاسترو "يدرك تماماً أن هناك من يتجنّبون قول الحقيقة أمامه، لكي لا يسبّبوا له مزيداً من القلق عما لديه أصلاً". وعلى ذمّة ماركيز، فإن لدى الزعيم الكوبي الذي غادر الحياة أمس قناعةٌ بأن "الحوافز الأخلاقية، أكثر من المادية، قادرةٌ على تغيير العالم، ودفع عجلة التاريخ إلى الأمام".
كتب ماركيز هذا قبل عشرة أعوام. ومعلومٌ أنه عندما توفي قبل عامين، أبدى كاسترو عليه حزناً كثيراً، وكتب عنه (بعد منحه رئاسة كوبا لشقيقه، صار الرئيس السابق كاتباً في صحيفة)، إنه ساحرٌ "لكم أحسُده على بديهيته" (!). وقال مرةً إنه تمنّى لو قدّر له أن يتجسّد في شخصيةٍ أخرى، ليختار أن يكون كاتباً "ولكن، من قماشة ماركيز". وتبدّى وفاءٌ كثيرٌ من الصديق لصديقه، من جهة الرئيس القائد إلى الكاتب الروائي، والوفاءُ قيمةٌ أخلاقية رفيعة، في أوضح تعريفاته.
تُرى، بأي عيونٍ نستعيد فيديل كاسترو، المولع بألبسة "أديداس" في خريف عمره، بعيون ابنته الحانقة عليه، والتي بسطت كل ما لديها عنه في حياته، من منفىً اختياري، أم بعيون صديقٍ له، عُرف بانحيازه للحرية والجمال، وكتب روايةً بديعة عن الدكتاتور، قرأناها نحن العرب، بينما يحدّق كثيرون منا في دكتاتوريين، يعملون حكاماً بين ظهرانينا في غير بلد عربي، وآخرين في العالم، لم يكن كاسترو بينهم، بحسب عديدين منا، فيما هو جديرٌ بمطرحٍ أنيقٍ معهم.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.