ماكرون في المغرب: الدلالات والحصيلة
اكتست زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المغرب من 28 إلى 30 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) أهمية بالغة، ليس فقط بالنظر إلى أنها زيارة دولة ذات صبغة بروتوكولية عالية، حيث بالرغم من مشكلاته الصحية، تنقل ملك المغرب، محمد السادس، بنفسه لاستقبال الرئيس الفرنسي في المطار، مخصّصاً له استقبالاً شعبياً كبيراً، وإنما أيضا من حيث توقيتها ونتائجها السياسية والاقتصادية، فهذه الزيارة جاءت بعد أزمة صامتة بين البلدين، دامت ثلاث سنوات، لعدة أمور: أولاً، محاولة ماكرون التقرّب إلى الجزائر وإنجاز مصالحة تاريخية بين البلدين، ما جعله رهين مواقف متذبذبة لم تُرض الجزائر وأغضبت المغرب. ثانياً، انتظار المغرب اللامتناهي من فرنسا أن تتبع خطوة أميركا اعترافها بمغربية الصحراء، خصوصاً أن دولاً أوروبية كبيرة سلكت مسلك الاعتراف الضمني، مثل إسبانيا (البلد المستعمر منطقة الصحراء) وألمانيا وبلجيكا وهولندا، تاركة بذلك فرنسا في مؤخرة القافلة. ثالثاً، اتهام فرنسا المغرب بالتجسس على مسؤوليه، وهي القضية التي كانت بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير.
مع مرور الزمن، تتغيّر الظروف فتتقلب المواقف، تتطوّر الاحتياجات فترتقي العلاقات أو تنحدر سريعاً، خاصة في عالم السياسة المبني على مبدأ كسب المصالح، ولا سيما في العلاقات الدولية، وهكذا، لم يجن ماكرون الذي راهن على الجزائر التي زارها حتى قبل توليه الرئاسة، مادّاً يده إليها، أي شيء طوال سبع سنوات من عهدته الرئاسية، سوى في فترة بدء الحرب الروسية على أوكرانيا وحاجة فرنسا المُلِحّة إلى الغاز الجزائري، قدّم الدعوة إلى الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبّون، لزيارة باريس، فزار هذا موسكو، ثم ألغيت زياراتٌ أخرى؛ عيل صبرُه فقرّر تغيير الوجهة، والرهان على صديق موثوق يعوّل عليه، لا من حيث توجّه سياساته وثباتها، ولا من حيث حجم المكاسب التي يمكن جَنيُها في عدة مجالات، بدءاً بالمجالين، الجيوسياسي والاستراتيجي، بحكم موقع المغرب الجغرافي وعلاقاته المتميزة مع دول محيطه الجغرافي، إذا استثنينا الجزائر، مروراً بالمجال العسكري، وانتهاء بالاقتصادي، وهو الأهم بالنسبة لرجل جاء من عالم المال والأعمال الذي يؤمن أهله بالصفقات، ولا يترددون لحظة في المضي فيها إذا كانت مُربحة.
يأتي هذا في وقت عرفت فيه فرنسا انتكاسات عدّة وتراجع نفوذها في إفريقيا عموماً، وفي منطقة الساحل والصحراء بالخصوص، بسبب سياساتها المتعجرفة. فهمت الدرس واستوعبته جيداً، وهي حالياً تبحث عن طريقة للرجوع كي تحافظ على هيبتها ومصالحها، بيد أنه لا يمكنها الرجوع إلا بعد تغيير النموذج الذي بنت عليه أسس علاقتها مع بلدان إفريقيا، ولا يمكنها الرجوع هذه المرّة إلا عبر البوابة المغربية.
جرى توقيع 22 اتفاقية في اليوم الأول من الزيارة بقيمة تناهز عشرة مليارات يورو، تشمل في مجالها لأول مرة كل مناطق المغرب
من ثَمَّ كانت الصفقة، اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء (المنظار التي صار المغرب ينظر من خلاله لعلاقاته مع الدول) مقابل الاتفاق على عقد "للشراكة الاستثنائية الوطيدة المتجدّدة" بين البلدين، كما ورد في نص إعلانها الذي وقعه الملك محمد السادس والرئيس ماكرون في الرباط في اليوم الأول من الزيارة، وتنص الاتفاقية على نقاط يمكن اعتبارها بمثابة تحالف استراتيجي بين المغرب وفرنسا في جميع المجالات، لا سيما في ما يتعلق بالجانبين، السياسي والاقتصادي، ويتميز البند الثالث بشكل لافت بنصّه صراحة على مبدأ التعامل الندّ للندّ: العلاقة بين دولة ودولة، والمساواة في السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وفي اختيارات السياسة الخارجية، واحترام الالتزامات المبرمة، والثقة، والشفافية، والتشاور المسبق، وتضامن ومسؤولية كل طرف تجاه الطرف الآخر"؛ ما يمكن اعتباره نقطة تحوّل كبيرة في مسار الدبلوماسية الفرنسية التي اعتادت استعمال أساليب ومصطلحات سياسية أخرى، كقوة عظمى ومستعمر سابق، بل هو أيضاً إشارة قوية موجهة أيضاً إلى دول إفريقية أخرى، "إياك أعني واسمعي يا جارة".
في الشق الاقتصادي، جرى توقيع 22 اتفاقية في اليوم الأول من الزيارة بقيمة تناهز عشرة مليارات يورو، تشمل في مجالها لأول مرة كل مناطق المغرب، بما فيها الأقاليم الجنوبية، وقد همَّت بالأساس تطوير البنية التحتية في مجال النقل السككي في أفق تمديد الخط فائق السرعة بين طنجة ومراكش، والمجال الطاقي باستعمال الهيدروجين الأخضر، أو في مجال الطيران ببناء وحدات لصيانة محركات الطائرات، ما يعزّز دور المغرب الصناعي، إضافة إلى صناعة السيارات التي تضخ المليارات في ميزانية الدولة المغربية. هذا بالإضافة إلى مشاريع كبرى في قطاعات استراتيجية النقل البحري وتهيئة الموانئ، والطرق، والطاقات المتجدّدة، والبيئة، والتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، ثم الزراعة والأمن الغذائي؛ كما أُضيفت إليها 18 اتفاقية جديدة وُقعت بين المقاولات المغربية والفرنسية، منها صناعة قمر اصطناعي يحصل عليه المغرب في أفق 2028.
الانتقال إلى علاقة استثنائية مبنية على أسس صلبة ومصالح مشتركة، يستفيد منها الطرفان بمنطق رابح رابح، وليس بمنطق الضعيف التابع والقوي المتبوع
وفي الشق السياسي، يمكن اعتبار خطاب ماكرون أمام البرلمان المغربي بغرفتيه لحظة فارقة باعترافه بأخطاء بلده تجاه المغرب في عهد الاستعمار، قائلا إن المغرب لم يفلت من أطماع التاريخ الاستعماري وعنفه في عهد الحماية، إذ انتهكت فرنسا "سيادته" من خلال الاتفاقات التجارية والمالية، ثم من خلال معاهدة فاس (عاصمة المغرب آنذاك التي وُقّعت فيها معاهدة الحماية سنة 1912)؛ مضيفاً أنه "بينما كانت فرنسا تفرض وجهات نظرها وتوطد مصالحها، سعى رجال إلى فهم واحترام هذه الإمبراطورية البالغ عمرها ألف عام. أعتقد أنهم أحبّوها، باعتبار هويتها العميقة وغير القابلة للاختزال". كما أكد ماكرون اعترافه الصريح بمغربية الصحراء وأعلن بعدها وزير الخارجية الفرنسي اعتماد بلاده خريطة المغرب كاملة بما فيها الصحراء الغربية. ومن جهة المغرب، التزم بمحاربة الهجرة السرّية ومكافحة الهجرة غير النظامية، والتعاون في مجال إعادة القبول ومنع عمليات المغادرة بالطرق غير القانونية، مقابل تسهيل التنقلات النظامية.
هي إذاً صفقة شاملة لبدء صفحة جديدة في علاقة البلدين، بل لكتابة كتاب جديد، كما قال الملك والرئيس، لنقل علاقتهما من علاقة شد وجذب ومد وجزر بين مستعمِر ومستعمرة سابقة إلى علاقة استثنائية مبنية على أسس صلبة ومصالح مشتركة، يستفيد منها الطرفان بمنطق رابح رابح، وليس بمنطق الضعيف التابع والقوي المتبوع.