في رمزية فوز اليسار الفرنسي
حصلت المفاجأة، وفاز اليسار الفرنسي في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية في 7 يوليو/ تموز الجاري، محتلاً الصدارة بأغلبيةٍ نسبية، التي وإن لم تتجاوز مائتي مقعد من أصل 577 في الجمعية الوطنية (البرلمان)، فإنها حقّقت مقاصد عديدة، واستطاعت إعطاء إشاراتٍ إيجابية كثيرة داخل المشهد السياسي الفرنسي، عكس نتائج الجولة الأولى بسلبية نتائجها وقبح دلالاتها.
لم يكن هذا الفوز الذي فاجأ الجميع مستحيلاً، كما ذهب الكاتب في مقاله "ماذا لو نجح اليسار في فرنسا؟" في "العربي الجديد" (21/6/2024)، نظراً إلى استطاعة اليسار للاتحاد داخل الجبهة الشعبية الجديدة، وقدرته على إنتاج ديناميكية إيجابية، سمحت له باحتلال الصدارة بكل أريحية عن جدارة واستحقاق، ناسياً بعض اختلافاته الإيديولوجية وتقديراته السياسية، معطياً الدروس لباقي الأحزاب الفرنسية الأخرى، ومتحدّياً نتائج استطلاعات الرأي المختلفة التي كانت مجمعة على احتلاله المركز الثاني، بعيداً عن التجمّع الوطني اليميني المتطرّف الذي خيّب آمال ناخبيه باحتلال المركز الثالث وراء الأغلبية الرئاسية السابقة.
فاز اليسار الفرنسي لأنه أعلن، عشية الجولة الأولى التي أعطت الصدارة لليمين المتطرّف، أنه سيسحب كل مرشّحيه الذين احتلوا المركز الثالث في كل الدوائر ليقطع الطريق على العنصريين للوصول إلى الحكم. فعل هذا من دون مقابل، كما أعلن ذلك زعيم حزب فرنسا الأبية، جان لوك ميلانشون، ما اضطرّ الأغلبية الرئاسية إلى ردّة فعل إيجابية، تمثلت بالقيام بالشيء نفسه، وإحياء "الجبهة الجمهورية" للتصدّي لـ "التجمّع الوطني" المتطرّف. وهذا ما حصل، حيث قدّر الناخبون موقف اليسار، وأضفى عليه جدّية ومصداقية افتُقِدت منذ سنوات. وهكذا نجح اليسار، وساهم في نجاح الأغلبية الرئاسية باحتلالها المركز الثاني، إذ لولاه ولولا سحبه مرشّحيه، لكانت النتائج لصالح التجمّع الوطني العنصري.
زادت نشوة الفوز بخسارة الصهيوني اليميني المتطرّف، مايير حبيب، مرشّح حزب التجمّع الوطني، المقرب من نتنياهو
حمل فوز الجبهة الشعبية الجديدة معه دلالات ورموزاً إيجابية عديدة، منها أن العمل السياسي الذي يستند إلى المبادئ والدفاع عن حقوق الإنسان وخدمة الشعب يفوز بالرغم من كل الإكراهات والضغوط المالية والإعلامية التي حاولت شيطنة اليسار عموماً، وحزب فرنسا الأبية خصوصاً، باتهامه اتهامات باطلة لا أساس لها، ولو أنها مؤثرة إعلاميا، من ذلك اتهامه بمعاداة السامية ومحاباة "الإرهابيين"، في إشارة إلى ما وقع في 7 أكتوبر (2023)، أو اتهامه بالطائفية، ومجاراة "الإسلاميين"، كذا اتهامه بإحداث الفتنة داخل البرلمان، في إشارة إلى ما وقع يوم 28 مايو/ أيار، حيث تلقى النائب سيباستيان ديلوغو (فرنسا الأبية) "لومًا مع الإقصاء المؤقت" بسبب تلويحه بالعلم الفلسطيني داخل قبة قصر البوربون الذي يضمّ الغرفة الأولى من البرلمان الفرنسي.
أخطأت استطلاعات الرأي، لأنها اعتادت ألا تأخذ في الحسبان دور الجالية العربية والمسلمة داخل المجتمع الفرنسي. فمن عادة هذه الجالية عدم الاهتمام بالسياسة والسياسيين، لكنها هذه المرّة هبّت هبة رجل واحد، تعبّأت وناصرت فانتصرت، ساندت فأُسندت، وآزرت فأوزرت بنتائج لم تخطر على البال، وحلت الجبهة الشعبية الجديدة في الصدارة، وهي التي وعدت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وإلغاء قانون الهجرة الظالم الذي مُرر بفضل أصوات اليمين المتطرّف، وهي أيضاً التي وعدت برفع الحد الأدنى للأجور وإلغاء قانون التقاعد وغيرهما من وعودٍ تخدم المستضعفين.
أخطأت استطلاعات الرأي، لأنها اعتادت ألا تأخذ في الحسبان دور الجالية العربية والمسلمة داخل المجتمع الفرنسي
انتصرت، لأن سيباستيان ديلوغو، الرجل المناصر للقضية الفلسطينية، فاز في الدور الأول، وانتصرت لأن كل مناصري القضية الفلسطينية، باستثناء النائبة راشيل كيكي، فازوا رغم أنف بعض الإعلام المتصهين، ثم انتصرت، لأنها حملت حزب فرنسا الأبية إلى المركز الأول داخل تحالف اليسار، ثم زادت نشوة الفوز بخسارة الصهيوني اليميني المتطرّف، مايير حبيب، مرشّح حزب التجمّع الوطني، المقرب من نتنياهو. فعلى الرغم من تقدّمه بفارق كبير في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية (35.58% مقابل 24.18%)، هُزم شرّ هزيمة أمام كارولين يادان (الأغلبية الرئاسية) في الدائرة الثامنة لفرنسيي الخارج التي تضمّ قبرص، مالطا، اليونان، إسرائيل، الأراضي الفلسطينية، إيطاليا وتركيا، هُزم بالرغم من التصويت المكثف له داخل الكيان المحتل، حيث صوت له 100% من المستوطنين، و85% من الإسرائيليين، حسب ما جاء في تغريدته على منصّة إكس.
وقع إذن السيناريو الذي لم يخطر قط ببال ماكرون، ظنّاً منه أن اليسار قد مات ودُفن. فحصول الجبهة الشعبية الجديدة على أغلبية نسبية سيحتّم عليه اختيار الشخصية التي سيتوافق عليها التحالف اليساري لتشكيل الحكومة المقبلة. ومن الطبيعي أن تنتمي إلى الحزب الفائز الأكبر، أي من بين أعضاء "فرنسا الأبية"، إلا إذا اتفق التحالف على اختيار شخصية توافقية أخرى لصد مناورات الرئيس ماكرون الذي سيحاول جاهداً كسر تحالف الجبهة الشعبية وإيجاد تحالف عريض ذي أغلبية مطلقة في الوسط، يقضي بإقصاء "التجمّع الوطني" المتطرّف يميناً وحزب فرنسا الأبية يساراً.
قد تنجح عودة تحالف اليسار المتعدّد إلى الحكومة بعد سبع سنوات من الحكم الماكروني في قيادة فرنسا، إلى حين الانتخابات الرئاسية المقبلة، خصوصاً أن برنامجه السياسي سيُلبّي تطلعات الشعب الفرنسي في مجالاتٍ كثيرة، وسيجنب فرنسا مآلات سيئة عديدة كانت تنتظرها، لو وصل اليمين المتطرّف إلى الحكم؛ في عودته دلالة على إمكانية إحداث التغيير عكس التيار الجارف إذا صدقت الإرادة، وفي هذا دلالة على أن الثبات على المواقف المبدئية (لا يتناقض مع ضرورة إبداء المرونة اللازمة بغية الوحدة والتوافق) يؤتي أكله، ولو بعد حين، وفي هذا درسٌ آخر ورمزية أخرى.