"ماما ميركل" تقلي بيضاً
لمّا سُئلت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، مرّة، عن يومٍ عاديٍّ بعد مغادرتها منصبها كيف تقضيه، أجابت إنها ستنام طويلا، وتتناول فطورا بسيطا، ثم ستخرُج لاستنشاق بعض الهواء الطلق، وستتحدّث مع زوجها، أو مع الأصدقاء، وقد تذهب إلى المسرح أو الأوبرا أو تسمع حفلة موسيقية. وإذا كانت تشعر بالراحة، فقد تقرأ كتابا جيدا، وربما تطهو العشاء. والروائي السوداني، عماد البليك، في روايته "ماما ميركل"، الصادرة طبعتها الأولى في 2015 (دار المصوّرات للنشر والطباعة والتوزيع، الخرطوم)، وطبعتها الثانية في 2017 (مداد للنشر والتوزيع، دبي)، يتخيّل المستشارة، صباح يوم غير محدّدٍ من العام 2015، تنهض من نومها فزعةً، بعد حلمٍ أرّقها، وتدخل مطبخَها، وتعدّ بنفسها فطورَها، ساندويتش من الجبن الألماني وقليلٍ من البيض المقلي الذي كانت قد قلّبته على النار ثم جعلته يهدأ قليلا، قبل أن تزجّه في الشطيرة. وقد جاء إلى بالها سوء الجوع، وكانت، قبل يومين، قد بدأت في قراءة رواية كنوت هامسون "الجوع". أما الحلم الذي أفزعها فهو رؤيتها فيه الفتاة السورية اللاجئة التي كانت قد رأتها في دار أوبرا في حفلة الليدي غاغا.
وبذلك، التقى كثيرٌ مما ستصنعه ميركل في يوم عاديّ لها، بعد أن تركت المستشارية التي أمضت فيها 16 عاما أول من أمس الأربعاء، مع الذي تخيّله لها في يوم عمل (تدردش فيه مع زوجها أيضا) الكاتب السوداني الذي أجاد في صناعته معمارَ روايته وبناءَها، عندما حشد فيها عدّة شخصياتٍ من اللاجئين والمتطوّعين (وغيرهم)، ومنح لكلِّ منهم مساحاتٍ واسعةً من الحكي عنهم، وأقام صلاتِ بعضٍ منهم ببعضٍ آخر. وبدا، إلى حدٍّ ما، أن لا أحد منها شخصيةٌ مركزية، لها البطولة الأولى في الرواية. وفي الغضون، حضرت ميركل، وبدت شخصيةً أكثر قليلا من ثانوية وأقلّ كثيرا من رئيسية، غير أن اسم الرواية أوحى بغير هذا، ما قد يُحسَب "احتيالا" نابها، يسنُده أن عماد البليك إنما قصد ظلال الاسم، من حيث الاستعارة المتضمَّنة فيه، للوقوع على ما تشيعُه الأمومةُ من شعورٍ بالحنان، وما يُحدِثه اسم ميركل من ارتياحٍ وفيرٍ لدى اللاجئين، وهي التي قالت إن حكومتَها ستفتح لهم بلادَها التي لن تتوقف عن استقبالهم. وكانت تعني، على ما نتذكّر، وعلى ما ذكر الكاتب، "آلاف اللاجئين الذين عطّلت الدول الأوروبية الأخرى طريقهم".
السورية رندا لاجئةٌ من أسرةٍ فقيرة، قتلوا أباها وأمها في حلب التي تزوّجت فيها من محبوبها الثري، وتتشرذم الأحلام والظنون لديها بشأن المستقبل. وفي مستشفى في هامبورغ، حيث تُعالَج من ارتجاج في دماغها، أصيبت به في زورق الهروب والفرار، يتعلّق بها الطبيب المصري محمد عطا. وحلب تبدو كأنها خارجةٌ من عالمٍ لم يكن موجودا. وفي أحلامٍ لها، طالما رأت رندا الليدي غاغا تغنّي على المسرح، غير أنها، وهي التي لم تتعافَ بعد، يأذن لها الطبيب، بالذهاب إلى الأوبرا، لتسمع غاعا، فترى ميركل، ويُغمى عليها. .. هذا كله، وكثيرٌ بعده وقبله، من مرويات عماد البليك الذي أحضر المستشارة إلى الأوبرا ليكون هذا اللقاء، وليصير الكابوس لاحقا، بعد أن صار تحقيقٌ (ثم اعتقال) مع الطبيب المهاجر إلى هنا، محمد عطا، صاحب الاسم الشبيه بمدبّر "11 سبتمبر"، في مقامه في هامبورغ. وتتشابك مقاطع الحكايات التي تتابعت في "ماما ميركل"، وتلتقي ولا تلتقي، وتترابط خيوطٌ وتنفكّ أخرى، عن جعفر وماليدا السودانيين ولقاءاتهما في لندن، وعن البريطانية المتطوّعة كاترين، وعن الأفغاني الملقّب تورا بورا، عبدالله وقاص، وعن إريتري لاجئ، يستعيد أشياء من سيرة أسرته. وإلى هؤلاء وغيرهم، ثمّة زعيم مافيا التهريب، الليبي المسمّى مالكولم إكس، وثمّة كاهن متواطئ.
فسيفساء من جغرافيات لجوء، ومن حكاياتٍ عن الحب وأفراح خائبة، وعن أوطانٍ كل منها جحيم. لم يحفل عماد البليك في روايته بحنينٍ في الفارّين منها، مقيم في حشاياهم أو متخيّل في أفهامهم، وإنما بالبلاد التي صار اللاجئون فيها ومرّوا عبرها (اليونان وإيطاليا)، حتى إذا أقاموا في ألمانيا، صار هذا ما قد يُحسَب "ناظما" بين مسارات قصصِهم التي أحال بعضُها إلى عنصرياتٍ والتباساتٍ قائمة. ويتشخّص أكثر من ناظمٍ بين رندا وميركل، أحدُها في نوم المستشارة، تتجوّل فيه (مجدّدا) في القدس القديمة، وتصلّي كثيرا "تكون قد عادَت هي، تلك الطفلة التي تشبه الفتاة السورية. تكتشف أنهما مركّبتان من روحٍ واحدة، حتى عشق ليدي غاغا، كأنهما طفلةٌ واحدةٌ تناسخت روحين". .. وتوزّعت مقاطع بين أقسام الرواية التسعة لراوٍ يحكي كيف انكتبت، لنعرف أن كاتبها الأول انتحر. وهذه من احتيالاتٍ غير قليلةٍ في هذه الرواية التي احتاجت إلى التخفّف من إسهاباتٍ في غير موضع، غير أن أجمل حيلةٍ أن أنجيلا ميركل تقلي بيضا في مطبخها في يوم عمل.