ما أجرأنا على الموت
تدهشني بعض ردود الفعل الجريئة على أخبار الموت.
يدهشني الاستهتار بخبر من يموت ممن لا نحب.
ويدهشني أكثر الجرأة في وقوف بعضنا على صراط مستقيم متخيل، لتوزيع القادمين من الحياة على ما نحسبه لهم المقرّ الأخير.
لم يعد الموت يشكّل لي ذلك الهاجس الغريب البعيد، بعد أن اقترب كثيراً مني حتى تماسّ مع روحي، فقد تخلّيت عن رهبتي المخيفة في حضرته، وصار بالنسبة إليّ موضوعاً عادياً، ويكاد يكون يومياً بيني وبين نفسي على الأقل. لم أفقد دهشتي تجاه اللغز الكبير الكامن خلفه حقيقة ووجوداً، بل تعاظمت تلك الدهشة بقدر اقترابه مني، حتى تحوّل إلى واقعي الشفيف.
أما الجديد، فهو مراقبة ردود الفعل تجاهه كخبر متحقق، وخصوصاً في الآونة الأخيرة، بعد أن صار إعلان أخبار الراحلين من خبز الأحاديث الدائمة تحت وطأة الخوف من تداعيات جائحة كورونا وتحولاتها وتحوراتها أيضاً. ولهذا، ربما صرت أشعر بصدمة حقيقية، وأنا أكتشف أن هناك من يتناول هذه الحقيقة الإنسانية التي تكاد تكون وحيدةً بمثل هذه الخفّة التي تودي إلى التفاهة والسطحية أحياناً.
يدهشني أن يتطوّع أحدهم بمحاولة إرسال من مات إلى الجنة أو إلى النار بمجرّد موقفه الشخصي منه أحياناً، أو برصد سلوكه وتصرّفاته وما تركه وراءه من أخبار ومواقف وذكريات وأقوال وتصرّفات.
يدهشني أن يعمل الأحياء على آلة الفرز بهذه الدقة المتخيلة وبهذه السرعة، فبمجرد أن يموت شخصٌ ما تشتغل تلك الآلة بكامل طاقتها وباتجاهين متعاكسين، وفقاً لرغبات من يقف وراءها. فيذهب هذا الراحل إلى الجنة أو إلى النار، وفقاً لرغبات أولئك الواقفين العاملين على تشغيل آلة الفرز، من دون أن يضعوا باعتبارهم أنهم قد يكونون وقود تلك الآلة، أو مادة العمل فيها بعد لحظات أو ساعات أو أيام أو أكثر أو أقل. يتصرّفون كأنهم مخلدون على هذه الأرض، حتى وهم يعرفون تماماً أنهم غير ذلك. لكنهم يبدون منهمكين في العمل وكأنهم يدفعون أعمارهم إلى آجال بعيدة وغير متخيلة.
لماذا يفعلون ذلك؟ من أين لهم الثقة بالاستمرار؟ ما المغري في ممارسة دور لا يملكون مقوماته ولا أدواته، وهم متأكدون أنه لا يملك الحق فيها، ويعرفون أن ما يفعلونه ليس سوى ضياع للذات الحقيقية تحت وطأة محاولةٍ يائسة وبائسة؟ من أين أتتهم تلك الجرأة الخرافية للوقوف على ما يعتقدون أنه الصراط المستقيم وتوزيع الاتجاهات؟ أنا أيضاً كنت قد وقفت أحياناً في السابق على ما كنت أعتقده الصراط المستقيم، متسلّحة بجرأتي المتهافتة أخيراً أمام رهبة الموت وجبروت الحق النهائي فيه.
لكنني نجوت ربما! قبل سنوات، مات شخص معروف بمواقفه اللا إنسانية في مساندة الطغيان في بلاده، وبشكل مشهود ومكشوف، فسارعت تحت وطأة حماسة ضبابية وشعور وهمي بانتصار لضحايا الطغيان إلى كتابة عبارة شيعت فيها الميت إلى جهنم وبئس المصير.
لم تهمّني ردود الفعل من آخرين حولي يومها كثيراً، على الرغم من أن معظم هؤلاء الآخرين كانوا يشفقون عليّ من ممارسة ذلك الدور الذي لا أملك حق ممارسته، ولكن ما أحزنني لاحقاً أنني اكتشفت تلك الحقيقة بنفسي. شعرتُ بتأنيب ضمير رافقني طوال تلك السنوات، وساهم في تسهيل مهمتي الجديدة بانتظار الموت قريباً أو بعيداً عني، بحياد الواقفين في "طابوره" بعشوائية.