ما الذي لم يتغير بعد؟
يُروى عن الجنرال الصهيوني، موشيه دايان، أنه قال، بعد حرب 1967، إنه إذا كانت هزيمة بعض الدول العربية تحتاج إلى بضع فرق عسكرية، فإن لبنان لا يحتاج لهزيمته غير فرقة موسيقية. منذ ذلك التاريخ، تغير كل شيء، وغدت الجبهة اللبنانية الوحيدة التي فيها بعض "الروح.."، لا تيأسوا من التغيير.
ليس مهما هنا موقفنا من حزب الله، وخلاف أهل السنة مع "شيعيته" وتبعيته لإيران، فما يؤخذ عليه هنا يؤخذ على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والمساعدات التي تقدّمها لها إيران، فليس ذنبها أن أبواب طهران مشرعةٌ أمامها، فيما أبواب عواصم العالم السني تكاد تكون موصدة في وجهها، بل إن بعض هذه العواصم (الرياض مثلا) شنت حملة شعواء على كل من ناصرها، وزجت ما يزيد عن ستين من المواطنين الأردنيين والفلسطينيين في سجونها، بتهمة دعم فلسطين والمقاومة وحماس وجمع المال لها. أما في عمّان، حيث أعيش، فـ"حماس" تهمة، وقد اتخذت السلطات قرارا منذ زمن بالنأي بنفسها عنها، وطردتها من أراضيها، وزجت متعاطفين كثيرين معها في السجون على فترات متباعدة، ومن لا تعتقله لا يسمح له بدخول أراضيها إلا بتنسيقٍ أمني، وضمن اشتراطات محدّدة. بمعنى آخر، المقاومة في بلاد العرب غدت "تهمة" يعاقب عليها قانونهم. أما التطبيع فلا، باستثناء بضع دول لم تزل قابضةً على جمر الصمود، ولا ندري حتّام يصمد هؤلاء، فتتراخى قبضتهم ويلتحقون بالركب اللاهث نحو تل أبيب.
المقاومة في بلاد العرب غدت "تهمة" يعاقب عليها قانونهم. أما التطبيع فلا
نعم.. كل شيء يتغير، وما شهدناه حتى اليوم ليس إلا بداية "اللعبة"، فها هي أميركا، البلد الذي تكاد تحكم العالم، ولديها أفضل الجامعات في العالم، وينتج أبناؤها العلم الرائد، والتكنولوجيا التي تغير وجه العالم. يتنافس على رئاستها مسنّان، أحدهما أشبه ما يكون بالمهرّج المتقاعد الذي لم يعد يثير ضحك الجمهور بقدر ما يثير تقزّزهم، ولا نقول شفقتهم، والثاني سياسي تعب، متآكل وعديم الكاريزما مثل جو بايدن ابن الـ 78. على حد تعبير أحدهم.
يعجز القلم عن رصد كل ما يحدث من تغيراتٍ ضربت كرتنا الأرضية، ولكن ما يثير العجب والإعجاب، في الوقت نفسه، في هذا المشهد، أن شعوب هذه البلاد، من الخليج إلى المحيط، تغيرت هي الأخرى، ولم تعد قطيعا يُساق بنشرة أخبار محطات التلفزة الرسمية، وما تبثه هذه من أخبار ملفقة معادة، تمجد الزعيم وتسبح بحمد نشاطاته، فقد تشكل لديها أشبه ما يكون بالعقل الجمعي الذكي الذي يمتلك آلياته الخاصة بالتمييز بين الكذب والحقيقة، ويعرف كيف يُمسك بالصحيح وسط بحر من الأخطاء، وحتى لو بدا أنه منفصل عن واقعه، وترك الحبل للسلطات الرسمية على غاربه، لتفعل ما تشاء، إلا أنه ينبئ، من حين إلى آخر، أنه متحفز للحركة والتغيير، ولا أدلّ على هذا من ثورات الربيع العربي التي تكالبت على سحقها كل قوى الأرض، بعد أن كادت قاب قوسين أو أدنى من قلب الطاولة على رؤوس الجميع. وما أشبه ما حدث لها بما حدث لانتفاضة القدس والسكاكين التي اشتعلت قبل سنوات، حين أصيبت عواصم العالم المؤثرة بالحمّى، فهبت كلها لإطفاء الشعلة، قبل أن تتّقد ويزداد أوارها، ومن يرجع إلى رصد التحركات الدولية التي شهدتها المنطقة حينذاك يعلم عن ماذا نتكلمَ!
وقاحة غير مسبوقة في النّيْل من الإسلام وأهله، مرّة بحجة ما يسمى "الإرهاب" والتطرّف، ومرة في هجاء ما يسمّى "الإسلام السياسي"
ومما تغير تلك الوقاحة غير المسبوقة في النّيْل من الإسلام وأهله، مرّة بحجة ما يسمى "الإرهاب" والتطرّف، ومرة في هجاء ما يسمّى "الإسلام السياسي" ومرّات بالسخرية من نبيه صلى الله عليه وسلم، ومما يحضر هنا ما نسب لوزير خارجية فنلندا، بيكا هافيستو، حين قال: لم أعد أفهم أي شيء، عندما نسخر من السود نسمّي ذلك عنصرية، وعندما نسخر من اليهود نسمي ذلك معاداة السامية، وعندما نسخر من النساء نسمي ذلك تحيزا جنسيا، وعندما نسخر من المسلمين نسمي ذلك حرية تعبير! وسواء صحّت نسبة القول لصاحبه أم لا، فلا يغير هذا من صحته. ومن عجبٍ أنه على الرغم مما جرى على لسان الرئيس الفرنسي، ماكرون، من سفهٍ بهذا الخصوص، إلا أن زعيما عربيا واحدا ممن هرعوا إلى باريس للتضامن معها إبّان ما تعرّضت له مجلة الرسوم المسيئة لنبي الإسلام من هجمات، لم ينبس ببنت شفه لإغلاق فم ترّهات الزعيم الفرنسي المتعصب كاره الإسلام والمسلمين. الوجه الآخر لحملة ماكرون هذا أنه دفع الملايين من أبناء هذا الدين إلى تجديد حبّهم نبيهم والانتصار له. وبمناسبة الحديث عن ردود الفعل على سفه ماكرون، لم نر أشد ولا أقوى من رد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حيث نقل عنه قوله: "ماذا يمكننا القول لرئيس دولة لا يفهم حرية العقيدة، ويعامل الملايين من أتباع ديانة مختلفة (المسلمين) في بلاده بهذه الطريقة؟ ما مشكلة المدعو ماكرون مع الإسلام والمسلمين؟ إنه بحاجة لعلاج عقلي".
شعوب البلاد، من الخليج إلى المحيط، لم تعد قطيعا يُساق بنشرة أخبار محطات التلفزة الرسمية
ولعل حديث أردوغان هنا يفضي بنا إلى الحديث عما تغير في تركيا، أو بالأحرى ما غيّره أردوغان، في الدولة التي كان أقصى طموحها "أن تجد لنفسها زاوية دافئة في الشرق الأوسط العربي، إلى دولة عظمى إقليمية وقوة سياسية لا يمكن تجاهلها، وبالأحرى الاستخفاف بها، دولة مستعدة لمواجهة أوروبا وروسيا والولايات المتحدة، فسواء في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني أو الحرب في ليبيا وفي ناغورنو كارباخ والتنقيب عن النفط في البحر المتوسط والأكراد في سورية أو حلف الدفاع مع قطر، فإن أردوغان يعد بأن تركيا ستكون في كل مكان ولن يستطيع أحد وقفها" والاقتباس هنا لأحد أشهر الكتاب الصهاينة، تسفي بارئيل، صاحب العمود المنتظم في "هآرتس".
ما الذي لم يتغير في عالمنا، بعد نحو مائة عام من الأحداث الجسيمة، جعلت أمتنا في قعر الكرة. ولكن مهلا، للصورة وجهها الآخر، ونصف ممتلئ أو أقل من الكأس، ولكنه ممتلئ على كل حال بغد آخر، حتى ولو طال انتظاره، فمن أحيا جبهة لبنان وخيب أمل دايان قادر على أن يحيي غيرها.