ما الذي يجري في الأردن؟
بسام العموش أحد أبرز وجوه الاعتدال في الحركة الإسلامية. حتى وقت قريب، كان متفائلا بحصول تغيير ما في المجتمع الأردني. قبل أيام، نشر رأيا على صفحات مجموعة أنشأها على تطبيق "واتساب" ضمّت أصدقاء له ومعارف من النخب السياسية والأكاديمية والإعلامية. كتب يقول بعباراتٍ بدت مبهمة وصارخة في وقت واحد: "من هو مهندس الترميم؟ من يملك القرار؟ من يملك ومن يملك. نتحدّث لبعضنا ونحن لا قرار لنا ونفشّ غلنا وينفضّ السامر. كنت متفائلا، ثم متشائلا، والآن أبدلت الهمزة ميما، لن يكون إصلاح، والمكتوب له عنوان".
كنت أعتقد أن بسام العموش آخر مواطن أردني يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة من التشاؤم، فسيرته العملية تظهر أنه صاحب نفَس طويل في المحاولات "الإصلاحية"، فقد كان وزيرا وناشطا حزبيا وسياسيا برلمانيا ودعويا حركيا واجتماعيا، وخبر مؤسسات المجتمع الأردني الرسمية والشعبية طويلا. وأن يصل، بعد طول استبطان، إلى هذه النتيجة، فهذا يعني أن طبقة غير قليلة من أبناء المجتمع الأردني الذين يمثلهم العموش، نفضوا أيديهم من أي آمال في الإصلاح.
تشعر هذه الأيام أن المجتمع الأردني برمته يعيش على صفيح ساخن، وفي حالة استفزازٍ غير مسبوقة. من يرقب ردّات فعله تجاه ما يجري في القطاعات كافة يدرك أنه قاب قوسين أو أدنى من الانفجار. ليست القصة متعلقة بالاقتصاد فقط، وسوء الأحوال. لا، تعدّى الأمر ذلك إلى إحساسٍ جمعي بضرورة إعادة النظر في العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الدولة الأردنية قبل قرن. وتلك معضلةٌ يكتنف الخوض فيها مخاطر جمّة، في أجواء مشحونة جدا. وفي وسع المرء هنا استحضار أكثر من واقعة، أو زلّة لسان، حصلت مع هذا أو ذاك، وأحدثت رجّة عنيفة في المجتمع، حيث تلمس أن قرون الاستشعار المجتمعي جاهزةٌ للانقضاض على أي شخص يزلّ لسانه بعبارة أو حتى كلمة، وكأن القوم يتحيّنون الفرص لتمزيقه شر ممزّق، في التفسير المفترض لهذا الحال. يمكن أن نذهب مذاهب شتى، لعل أقربها إلى الواقع أن المجتمع برمته مستفزٌّ من الطبقة الحاكمة كلها، ويبحث عن هدفٍ بديلٍ لتمزيقه، ربما لأنه غير قادر على النيْل من الهدف الأصلي، حيث أصبح كمن يأكل نفسه، بسبب عجزه عن الاشتباك مع الهدف الأصلي. هذا فضلا عن توفر منابر سهلة للتعبير، جعلت أي مستاءٍ من أي شيءٍ يفتح بثا مباشرا وقول ما يريد.
أكبر كتلتين (أو جزيرتين) ازدادت الهوّة بينهما: طبقة رجال الحكم السابقين والحاليين والملحقين بهم من مستفيدين، من جهة، وعامّة الشعب من جهة أخرى
لعل أخطر ما أصاب المجتمع الأردني هذه الأيام تحوّله إلى ما يشبه الأرخبيل من الجزر، وازدياد تباعدها عن بعضها. إنه نوع من الانهيار، أو قل التفسّخ الذي ضرب جسد المجتمع. ولعل أكبر كتلتين (أو جزيرتين) ازدادت الهوّة بينهما: طبقة رجال الحكم السابقين والحاليين والملحقين بهم من مستفيدين، من جهة، وعامّة الشعب من جهة أخرى. ويبدو أن حالة عداء مستحكمة بدأت تأخذ أشكالا شتى من الاشتباك بين الطرفين، وهي تعبير فظٌّ عن تآكل ما تسمّى "هيبة" الدولة ومؤسساتها ورموزها الوطنية، بعد أن كثرت قصص الفساد والاستقواء على المال العام وشيوع المحسوبية والظلم وغياب العدالة في تقسيم الثروة (إن وجدت أصلا)، وهي ثروة تمثلها في الأساس جيوب المواطنين، (ترجمة شعبية لمقولة الإنسان أغلى ما نملك)، حيث تعتمد الدولة، في دخلها الرئيس، على الضرائب والمكوس التي تُجبى من المواطنين، ثم يعاد توزيعها بشكل غير عادل على طبقة رجال الحكم، مع إبقاء شيءٍ ما للعامّة من صغار الموظفين ومتلقي المعونة الوطنية، وما بين هؤلاء وأولئك فئة تعيش على ما يأتيها من تحويلاتٍ من خارج الوطن من أقارب وأهل تفرّقوا في المنافي طلبا للرزق، وحتى هؤلاء أصابهم ما أصاب دول الاغتراب من شحٍّ وضيق حال، بسبب الجائحة أو انهيار سعر النفط، أو غيره من أسباب.
أما قصة الإصلاح أو قصة إبريق الزيت، فتلك حكايةٌ تشبه أحابيل الجدّات وقصصهن الخرافية التي دأبن على روايتها للأحفاد كي يناموا، ويحلموا في غيبوبتهم بالأميرة ذات الهمّة، والاحتفالات المليئة بالولائم العامرة، والأحصنة البيضاء التي يأتي على ظهورها شبانٌ وسيمون لأخذ عروساتهم إلى بلاد الواق واق، حتى إذا انبلج الفجر طارت الأحلام واستيقظ الأولاد على إفطار قد لا يكون غير لقيمات من الزيت والزعتر أو الخبز والشاي.
لعل أخطر ما أصاب المجتمع الأردني تحوّله إلى ما يشبه الأرخبيل من الجزر
ثمّة جانب آخر من جوانب الشرخ بين الجزيرتين المذكورتين، وهو الموقف من العدو الصهيوني. الأولى: الشعبية، ترفع عقيرتها بمقاطعة العدو ومنتجاته وتجريم التطبيع، وتنادي بإلغاء اتفاقية وادي عربة، وصفقة شراء الغاز الفلسطيني المسروق، وتأييد المقاومة وإعلاء شأن الشهداء، والتضامن مع الأقصى وغزة وفلسطين في كل ما تجد من الاحتلال. الثانية: الرسمية، فتعيش شهر عسل مع كيان الاحتلال، شهر عسل بمعنى الكلمة، إنْ من حيث اللقاءات الرسمية التي يغفل عن ذكرها الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، وتفضحها وسائل إعلام العدو، أو على صعيد الاستمرار في التنسيق من فوق وتحت الطاولة في المجالات كافة، ضاربةً عرض الحائط بكل ما يهتف به نشطاء الجزيرة الشعبية. وتلك في المجمل واحدةٌ من مظاهر المرض العضال الذي أصاب المجتمع الأردني، فللشعب أن يقول ما يقول، وللرسميين أن يفعلوا ما يريدون، غير ملقين بالا لعلو الأصوات تلك، وهي سياسةٌ تنسحب على كثير من تصرفات الرسميين الذين تشعر، في أحيان كثيرة، أنهم لا يقيمون وزنا لما يجري في الجزيرة الأخرى، وقد لا يأخذونه على محمل الجد حتى.
ماذا يجري في الأردن؟ هل نحن على أبواب تغيير جذري في كل شيء؟ ممكن، ولكن لا يغيب عن الذهن هنا أن الأردن جزء من "إقليم" تحكمه محدّدات كثيرة، لعل أهمها ما يجري حوله، خصوصا في فلسطين، ويبدو أن الإقليم كله يعيش على فوّهة بركان، ولا يدري أحدٌ متى يثور.