09 نوفمبر 2024
ما بعد مفاجأة البشير
لا يمكن استقبال قرار الرئيس السوداني، عمر البشير، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين في بلاده، إلا بإيجابيةٍ، سيما وأن إيضاحا جرى أنه قرارٌ جاء استجابةً لمناشدة أحزابٍ مشاركةٍ في الحكومة، وتعزيزاً لروح الوفاق والوئام الوطني والسلام التي أفرزها الحوار الوطني، بشقّيه السياسي والمجتمعي. و"لإنجاح وتهيئة الأجواء الإيجابية في ساحة العمل الوطني، بما يفتح الباب لمشاركة جميع القوى السياسية في التشاور حول القضايا الوطنية، ومتطلبات المرحلة القادمة، وخطوات إعداد الدستور الدائم للبلاد". ويبقى بعد تنفيذ هذا القرار أن يعبر السودان إلى خطواتٍ واجبةٍ تأخذه إلى مسار ديمقراطي وتنموي حقيقي، من نوعٍ مغايرٍ لنوبات الحوار الموسمية الديكورية، مع أحزابٍ تجتمع ثم تتخاصم، وقد اعتاد السودانيون على مشاهد مهرجاناتٍ كلاميةٍ مضجرةٍ عن الحوار والتعاون والمشاركة وتوزيع السلطة، وغير ذلك من مفرداتٍ لم تعد تلقى لدى الجمهور اكتراثا. ولأن الحال هو على هذا النحو، فإن وعد الرئاسة السودانية بفتح الباب لمشاركة القوى السياسية في تشاورٍ بشأن قضايا البلاد في المرحلة المقبلة ليس متوقعا أن يُؤخذ على محمل الجد بمقادير كافية، ليس فقط لأن الخبرة العامة في التعامل مع جولات تشاورٍ مديدةٍ، انعقدت بين القوى السياسية في البلاد بين وقت وآخر، دلّت على أن هذا كله كان أداءً فلكلوريا، سيما وقد تخلّلته جولاتُ اعتقالاتٍ لرموزٍ وعناصر في هذه القوى المتشاورة، في ضفاف المعارضة والبيْن بيْن. وإنما أيضا لأن هذه الفلكلورية أسعفت الحكم الراهن في الخرطوم، بقسطٍ ملحوظٍ، في نجاحه في احتفاظه بالسلطة منذ الانقلاب المشهود في 1989.
وإذا ما تذكّرنا أن محتجّين غير قليلين في مظاهراتٍ ضد الغلاء قبل شهور تم إيداعهم السجون، ومرجّح أن يكونوا مشمولين في قرار الإفراج المستجد، فذلك يؤشر إلى أن مسألتي الحوار الوطني وإعداد دستورٍ دائم للبلاد، وما يتصل بهما من شؤون، ليستا أولوية الأولويات لدى المواطن السوداني، فارتفاع أسعار سلعٍ رئيسيةٍ (بينها الخبز)، وانكشاف الطبقة الوسطى، وبلوغ الفقر نسبة 36% بين السكان، مع دخول شرائح كبيرة في دائرته (السكان 39 مليون نسمة)، وما يأتي عليه خبراءُ مختصّون عن تراجع معدلات الإنتاج، وبلوغ البطالة مستوىً مقلقا (19%)، هذه المعطيات الماثلة، والملموسة عيانيا، يراها السودانيون قضايا أكثر إلحاحا مما يعتبرونها في عداد الثرثرة السياسية. وليس ظاهراً أن السلطة قادرةٌ على اجتراح خططٍ إنقاذيةٍ للحالة الاقتصادية المتعسّرة، تُشعر السودانيين بأن تحسّنا طرأ على عيشِهم، على غير صعيد. وإنْ تُراهن على مشروعاتٍ كبرى، من قبيل تأهيل ميناء سواكن، بتمويلٍ قطري، وتتطلع إلى أن تنظر العربية السعودية والإمارات إلى أحوال السودان بما يستحقّه من عونٍ، بالنظر إلى مشاركة جنودٍ سودانيين في عمليات التحالف العسكري في اليمن.
ثمّة من رأى أن إفراج الرئيس البشير المفاجئ عن جميع المعتقلين السياسيين يشتمل على رسالةٍ إلى الولايات المتحدة لتسريع الانتقال إلى المرحلة الثانية من الحوار معها، في سبيل رفع نهائيٍّ لاسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وقد يكون هذا واردا، إلا أن الأدْعى بشأنه أن يُنظر إليه في سياق استحقاقاتٍ عديدةٍ وملحّةٍ، مطلوبٌ من السلطة الوفاء بها، أقلُّه لتحقّق شيئا من الصدقية لخطابها، ومن ذلك إطناب الرئيس في الحديث عن "حربٍ على الفساد في كل مكامنه ومخابئه". ولا يُغفل، في أي مقاربةٍ للمشهد السوداني العام، ولو عارضة كما هذه السطور، عن حاجة هذا البلد إلى الخلاص من الحروب التي لا يُراد لها أن تتوقف فيه، في إقليم دارفور وغيره. وبديهيٌّ أن من شأن هذا الخلاص أن يعين السودان على تيسير سبل النهوض التنموي المنشود، غير أن الوصول إليه يحتاج عقولا خلاقةً في السلطة، لا تتوسّل، مثلا، التزيّد في الخطابات الشعبوية عن "متمرّدين"، وعن همّة القوات المسلحة الدائمة في مواجهة "كل متربص وخائن"، وما إلى ذلك من كلامٍ سئم سودانيون كثيرون الرطانة المديدة فيه، وهم يبحلقون في أحوالهم التي تستحكم التعاسةُ فيها، ولا ضوْء يقترب.
وإذا ما تذكّرنا أن محتجّين غير قليلين في مظاهراتٍ ضد الغلاء قبل شهور تم إيداعهم السجون، ومرجّح أن يكونوا مشمولين في قرار الإفراج المستجد، فذلك يؤشر إلى أن مسألتي الحوار الوطني وإعداد دستورٍ دائم للبلاد، وما يتصل بهما من شؤون، ليستا أولوية الأولويات لدى المواطن السوداني، فارتفاع أسعار سلعٍ رئيسيةٍ (بينها الخبز)، وانكشاف الطبقة الوسطى، وبلوغ الفقر نسبة 36% بين السكان، مع دخول شرائح كبيرة في دائرته (السكان 39 مليون نسمة)، وما يأتي عليه خبراءُ مختصّون عن تراجع معدلات الإنتاج، وبلوغ البطالة مستوىً مقلقا (19%)، هذه المعطيات الماثلة، والملموسة عيانيا، يراها السودانيون قضايا أكثر إلحاحا مما يعتبرونها في عداد الثرثرة السياسية. وليس ظاهراً أن السلطة قادرةٌ على اجتراح خططٍ إنقاذيةٍ للحالة الاقتصادية المتعسّرة، تُشعر السودانيين بأن تحسّنا طرأ على عيشِهم، على غير صعيد. وإنْ تُراهن على مشروعاتٍ كبرى، من قبيل تأهيل ميناء سواكن، بتمويلٍ قطري، وتتطلع إلى أن تنظر العربية السعودية والإمارات إلى أحوال السودان بما يستحقّه من عونٍ، بالنظر إلى مشاركة جنودٍ سودانيين في عمليات التحالف العسكري في اليمن.
ثمّة من رأى أن إفراج الرئيس البشير المفاجئ عن جميع المعتقلين السياسيين يشتمل على رسالةٍ إلى الولايات المتحدة لتسريع الانتقال إلى المرحلة الثانية من الحوار معها، في سبيل رفع نهائيٍّ لاسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وقد يكون هذا واردا، إلا أن الأدْعى بشأنه أن يُنظر إليه في سياق استحقاقاتٍ عديدةٍ وملحّةٍ، مطلوبٌ من السلطة الوفاء بها، أقلُّه لتحقّق شيئا من الصدقية لخطابها، ومن ذلك إطناب الرئيس في الحديث عن "حربٍ على الفساد في كل مكامنه ومخابئه". ولا يُغفل، في أي مقاربةٍ للمشهد السوداني العام، ولو عارضة كما هذه السطور، عن حاجة هذا البلد إلى الخلاص من الحروب التي لا يُراد لها أن تتوقف فيه، في إقليم دارفور وغيره. وبديهيٌّ أن من شأن هذا الخلاص أن يعين السودان على تيسير سبل النهوض التنموي المنشود، غير أن الوصول إليه يحتاج عقولا خلاقةً في السلطة، لا تتوسّل، مثلا، التزيّد في الخطابات الشعبوية عن "متمرّدين"، وعن همّة القوات المسلحة الدائمة في مواجهة "كل متربص وخائن"، وما إلى ذلك من كلامٍ سئم سودانيون كثيرون الرطانة المديدة فيه، وهم يبحلقون في أحوالهم التي تستحكم التعاسةُ فيها، ولا ضوْء يقترب.