ما تفعله قناة العربية بنفسها
ربما لم يكن لديك المزاج، ولا الوقت الفائض، في أثناء الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، أخيرا، للتفرّج على نشرات أخبار قناة العربية، لتنويع خياراتك في التعرّف على جديد التطورات الميدانية والسياسية، ولكنك لو فعلت القليل من هذا لغشيك مزاجٌ متكدّر. والراجح أنك لم تكترث بالقناة المذكورة، ولمتابعاتها الحدث الفلسطيني الساخن، وانصرفت، كما ملايين في الأمة، إلى الفضائيات العربية التي تميّزت في متابعاتها مستجدّات غزّة والقدس وعموم فلسطين، في غضون ضرب المقاومة، بصواريخها المصنعة ذاتيا، أهدافا في دولة الاحتلال، وكثافة الاعتداءات التي تواصلت على القطاع وأهله الذين ارتقى منهم 245 شهداء. ولكي تبقى في صورة ما كانت عليه قناة العربية، بينما كانت جوارح الشعوب العربية متعلقةً بالفلسطينيين الصامدين، في وُسعك أن تطالع التدوينات والتغريدات والمنشورات الغزيرة في "السوشيال ميديا"، فستنبئك بالمدى الذي بلغته هذه المحطّة، من مقامها في دبي، من سقوطٍ مريع، ومن سفالةٍ في الأداء الإعلامي. ولستَ مطالبا، بالطبع، بأن تستقبل ما ستقرأ بتسليمٍ مسبقٍ بصدقيته، وإنما بأن تستفتي قلبَك، وعندها ستجدك قد سُررتَ بيقظة الوجدان العربي ونبذه هذه المحطّة، عندما ترى التعبيرات الساخطة والساخرة منها، متوازيةً مع فائضٍ من الاحترام والتقدير للمجهود الاستثنائي، والاحترافي، الذي أدّياه تلفزيون العربي وقناة الجزيرة.
مكاتب الفضائية المتحدّث عنها في غزّة مغلقة منذ العام 2014، بقرار سلطة الأمر الواقع. ومن العسير على مشتغلٍ بالإعلام، كما صاحب هذه السطور، أن يناصر قرارا كهذا، غير أنه ربما سيُطالب نفسَه بفحص دوافع هذا الإجراء، سيما وأن الاتهام الذي رُميت به "العربية" ثقيل، أنها تقوم بدورٍ مشبوه. وهو نفسُه الاتهام الذي أعلنته وزارة الداخلية والأمن الوطني في غزّة، الأسبوع الماضي، في بيانها الذي نفت فيه ما روّجته "العربية" عن مغادرة قادة فصائل في المقاومة وعائلاتهم إلى مصر في ظل العدوان. وقالت الوزارة إن القناة تعمل وفق أجندةٍ تتقاطع مع أجندة الاحتلال وأجهزة مخابراته. وإذا ما سأل واحدُنا عن بواعث "انفراد" القناة بهذا الخبر الزائف، فلن يجدها غير البواعث نفسِها التي جعلت هذه المحطّة تتخندق، بتطرّفٍ مكشوف، ضد مشاعر الجمهور العام، وبانحياز صارخ ضد كل توجّهٍ إسلاميٍّ سياسي، فلسطيني أو غيره، من دون الحدود الدنيا من التوازن المهني.
عندما تبثّ "العربية" فيلما وثائقيا عن مارلين مونرو، بينما كان أهل القدس وغزّة وكل فلسطين يبتهجون في احتفالاتٍ تلقائيةٍ بوقف العدوان الإسرائيلي، فذلكم فعلٌ تستقيل فيه هذه القناة من الوظيفة التقليدية للإعلام. كما أنها بصنيعها البالغ الركاكة هذا تنتحر، وهي التي أفاد استطلاعٌ للرأي أنجزته مؤسسة زغبي في الولايات المتحدة، قبل أعوام، إن 9% من المشاهدين العرب يتابعونها مصدرا للأخبار، في مقابل 53% يتابعون "الجزيرة". وعندما تسمّي القناة تظاهرات التضامن في عواصم ومدن عديدة في العالم مع الشعب الفلسطيني، ومع المدنيين الذين يتعرّضون للعدوان الإسرائيلي، تظاهرات تنديدٍ بالعنف في الشرق الأوسط (!)، يصبح من عاديّ الأمور أن يرميها ملايين النظّارة العرب، منذ سنوات، بأنها "العبرية"، سيما وأن الخبر فيها هو اعتراض جيش إسرائيل صاروخا لكتائب القسام، وليس إطلاق الصاروخ نفسه. وعندما يقتصر البثّ المباشر، على شاشتها، غالبا، في أثناء الحرب، على كلمات قادة الاحتلال وحكومته وجيشه، مع الامتناع عن بثٍّ مباشر لكلمات قادة "حماس"، فإن ظنونك السيئة ستكون مسوّغة.
غرّد ناقمون ودوّنوا إنك لو تركتَ ابنك يشاهد "العربية" سنة، ثم رجعت إليه فستجده متطوّعا في الجيش الإسرائيلي. وكتبوا إنها كانت عبرية المحتوى والمضامين في أثناء العدوان. وطريفٌ من أحد المشايخ قوله، في مناسبةٍ سابقة، لو كانت هذه القناة في زمن النبوّة، ما اجتمع المنافقون إلا فيها ... مؤسفٌ هذا كله وغيره، وفي البال أن كثيرين منا استبشروا بإطلاق "العربية" في العام 2003، من باب تنويع الفضاء الإعلامي العربي وتعدّديته، وتحبيذا للمنافسة المهنية، غير أن أحدا لم يتوقع أن تصل خيبة أمله إلى الذي صار يُشاهَد على شاشة القناة من انعدام الحسّ والأخلاق.