ما حقيقة ذلك الشأن الداخلي؟
حينما أسمع ما بين المعارك أو الأحداث تللك الكلمة التي تصف الدماء السائلة بأنها "شأن داخلي"، أتأكد أن هناك لسانا كبيرا يتحرّك في الهواء بخبث وفضيحة ولؤم فاضح، وكأنه يعطي للأسلحة مهمة وضع النهاية اللائقة بأسرع فاتورة من الدم ممكنة من الخصوم، أي خصوم، كي يجلس الجميع على مائدة الصلح في استكانة.
كلمة خبيثة تقال بوطنيّة طنّانة ومحفوظة، كي تمنع أي يد من الاقتراب من مائدة الدم، حتى دماء إخوة في الوطن أو الدين أو اللغة، المهم أن تشتغل الآلة الإعلامية بقوة جبّارة بأكبر قدر من الوجوه التي اعتادت الفضائح، سواء على مسؤوليتهم الشخصية، كما يؤكّد المتحدّث اللئيم دائما، أو محبّة للوطن الذي هو بالطبع فوق رقاب الجميع.
لا مانع من تمرير الجرعة الوطنيّة تلك بمئات الأغنيات من أرشيف الاذاعة أو التلفزيون بما فيها المواد التلفزيونية الأبيض وأسود، ابتداء من "عوّاد باع أرضه"، حتى "يا صحرا لمهندس جاي". ولا مانع أيضا من حضور الأفلام الوطنية جدا ابتداء من "الأرض"، إلى آخره. أما لو كان الحدث جللا ففيلم "الطريق إلى إيلات". المهم أن تصبّ كل المعروضات الوطنية والعاطفية والفنية بما فيها أغاني محمد طه والريس متقال في التأكيد على تلك المقولة الوطنيّة الهامة "شأن داخلي"، فالسيول في أول الشتاء شأن داخلي، وحوادث المزلقانات شأن داخلي، وحادثة عبّارة البحر الأحمر شأن داخلي، والهجرة غير الشرعية شأن داخلي، لأن العيال قليلة التربية والباحثة عن الترف في أوروبا والجري وراء البنات الشقراوات، بلا خبرة ولا معلومات ولا حتى شهادات علمية، ينخرون في عظام الوطن ومؤسّساته ومراكبه من دون علم منهم، وبلا معرفة حقيقية لمدى خطورة المسؤولية السياسية، خصوصا ونحن على أبواب قروض هامة من البنك الدولي، فأي غفلة وجهل ذلك؟
ألا يعرف هؤلاء أيضا أن معلومات الدولة أيضا، رغم بدعة السماوات المفتوحة، شأنٌ داخلي، وخصوصا أن الدماء ما زالت بيننا وبين "إسرائيل" قائمة، حتى وإن غفت الأسلحة لحيظات قليلة، فالشأن الداخلي لا بد أن يكون الإطار الرئيسي في ليبيا أيضا، حفاظا على النفط والغاز ووحدة الأرض بالطبع حتى فوق رقاب آلاف الجثث، ولا بد أن يكون كذلك في السودان حتى وإن دكّت الخرطوم وأم درمان والأبيّض ودارفور تماما. والشأن الداخلي لا بد أن يسود وزارة التموين ومزارع القمح وانقطاع التيار ولو ساعة أو ساعتين. أما ارتفاع الأسعار، فهذا هو صلب الشأن الداخلي، خصوصا ونحن في القلب من حرب كونية ما بين روسيا وأوكرانيا، والنيل من قديم الزمان يزيد وينقص، والكهرباء تصل وتنقطع، والقمح ينقُص ويزيد. ولنا في يوسف عليه السلام موعظة حسنة، حتى الصحة تقلّ وتزيد، والمسلسلات أيضا تقوى في رمضان وتضعُف وتقلّ بعده، والإيمان نفسه يقلّ ويزيد، والدخل يزيد ويقلّ.
الشأن الداخلي مهم، وخصوصا في أيام الحروب، ونحن من سنواتٍ نخوضُ حربا مع عدوّ شرس ولئيم. صحيحٌ أن أغلبهم في السجون، ولكن قنواتهم تعمل، رغم أن قنواتهم أقلّ بقليل من قنوات "المداواة بالأعشاب"، إلا أنهم يُؤثرون على ذلك "الشأن الداخلي" جدا، خصوصا في مسألة بسيطة جدا، كسدّ النهضة مثلا، قمنا بعده بتحلية مياه البحار والمحيطات وحفر مئات الآبار التي تم من خيرها زراعة أربعة ملايين فدّان من القمح، علاوة على مليون نخلة، والقادم أعظم وأجمل.
الشأن الداخلي هو تلك السبيكة التي تصهر عناصر الوطن في بوتقةٍ واحدة وقوية، حتى وإن ألقى رئيس نيابة بنفسه من الدور الثامن بعدما أخذ رشوة بالملايين، وسقوطه هو البرهان الأكيد والحاسم على متانة "الشأن الداخلي" وتماسكه. الشأن الداخلي هو ذلك السور القوي جدا حول أبناء الوطن، مخافة اختراقه. أما الشخص العابث الذي يحاول جاهدا أن ينخر في "هذا الشأن الداخلي المتماسك"، فسوف يرتدّ كيدُه إلى نحره، حتى وإن أطلقنا سراح فلان أو علان من هنا أو من هناك رحمة بأسرهم، حتى وإن كان ذلك بعد ساعتين من حكم قضائي، فهذا أيضا شأن داخلي، وللملحن واللواء الراحل العظيم محمد عبد الوهاب أغنية شهيرة يقول فيها: "تراعيني قيراط، أراعيك قيراطين/ وتشوفني بعين، أشوفك باتنين".
والعالم كله في سفينة واحدة، ونحن أيضا نؤمن بحقوق الإنسان.