ما يكشفه سجال "أكنجي" بين تركيا وإيران
عندما أعلنت إيران، في 19 مايو/ أيار الحالي، فقدان الاتصال بالمروحية، التي حملت الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان ومسؤولين آخرين، في أثناء عودتها من منطقة حدودية مع أذربيجان، سارعت تركيا إلى إبداء استعدادها لمساعدة السلطات الإيرانية في جهود البحث عن المروحية. وقد طلبت طهران بالفعل مساعدة أنقرة، التي أرسلت مُسيّرة من طراز "أكنجي" المتطوّرة إلى المنطقة. ويظهر من خلال الصور، التي التقطتها المُسيّرة في أثناء البحث، وبثّت على الهواء مباشرة، أنّها لعبت دوراً حاسماً في تحديد موقع حطام المروحية. وكان من المفترض أن يطوي العثور على الحطامِ النقاشَ بشأن عملية البحث، لولا أنّ رئاسة الأركان العامة للجيش الإيراني أصدرت بياناً مفاجئاً، بعد يوم من انتشال جثمان رئيسي ورفاقه، يُقلّل من دور المُسيّرة التركية في العثور على المروحية، ويزعم أنّها فشلت في تحديد موقع التحطّم بدقّة، بسبب عدم وجود مُعدّات كشف ومراقبة النقاط تحت السحاب.
وقد سارع المسؤولون الأتراك إلى الردّ ضمناً على المزاعم الإيرانية، من خلال تأكيد دور مُسيّرة "أكنجي" في تحديد موقع تحطّم المروحية. ورغم أنّ الجيش الإيراني لم يُقدّم في بيانه دلائل ملموسة تُثبت صحة زعمه، إلا أنّ السجال التركي الإيراني بشأن دور مُسيّرة "أكنجي" يكتسب بُعداً سياسياً بقدر أكبر من ارتباطه بطبيعة جهود البحث نفسها. فبدت إيران مُحرجةً للغاية في الداخل وفي الخارج من فشلها في العثور على المروحية الرئاسية داخل أراضيها من دون مساعدة من دولةٍ مُجاورة. وقد كسر هذا الحرج كبرياءها وصورتها، التي رسمتها لنفسها دولةً استطاعت التغلّب على عقود طويلة من العقوبات الغربية عليها، وتمكّنت من تطوير قدراتها التكنولوجية رغم العزلة، لكنّ هذه القدرات لم تُمكّنها من العثور على مروحية كانت تقلّ رئيس جمهوريتها داخل أراضيها، وليس في بلد آخر، ولا في تحديد مصير رئيسها لأكثر من نصف يوم لولا مساعدة دولة أخرى. ولأنّ الدولة الأخرى هي تركيا، وإنْ تُصنّفها إيران صديقةً، فإنّ الحرج الإيراني أصبح مُضاعفاً.
إيران وتركيا يمتلكان ترسانة كبيرة من المُسيّرات، ويحرصان على استعراض قدراتهما من أجل سوق التصدير
تنخرط طهران وأنقرة، منذ سنوات طويلة، في منافسة إقليمية واسعة النطاق. ولا تقتصر هذه المنافسة على النفوذ في المجالات الجيوسياسية، بل تشمل، أيضاً، صناعة الطائرات المُسيّرة. ويمتلك البَلَدان ترسانة كبيرة من المُسيّرات، ويحرصان على استعراض قدراتهما من أجل سوق التصدير. وبقدر ما أضرّ الفشل الإيراني في العثور على حطام المروحية بشكل ذاتيّ بصورة قدراتها التكنولوجية، لا سيّما في مجال الطائرات المُسيّرة، فإنّ الدور الحاسم لمُسيّرة "أكنجي"، منحَ تركيا فرصةً لاستعراض التكنولوجيا المتطوّرة التي تمتلكها في هذا المجال. لا يُمكن بطبيعة الحال الاعتماد على عملية العثور على حطام المروحية مقياساً عامّاً للمقارنة بين صناعات الطائرات المُسيّرة لكلّ من تركيا وإيران، وخصوصاً المُسلّحة منها، لأنّ البلدين نشطان، بالفعل، في استخدامها بكفاءةٍ في مناطق نزاع خارجية، لكنّ الانطباع الذي أوجده دور مُسيّرة "أكنجي"، يجعل تركيا متفوّقة نفسياً على إيران في الترويج الداخلي والخارجي لقدراتها التكنولوجية في صناعة المُسيّرات.
تعمّدت أنقرة إثبات فعالية "أكنجي" في هذه المُهمّة من خلال الصور التي شاهدها العالم، من دون الحاجة إلى اعتراف طهران بجهودها
يظهر، أيضاً، دافعٌ آخر محتملٌ لإيران لخوض سجال مع تركيا بشأن دور مُسيّرة "أكنجي"، ويتمثّل في انزعاجها من قيام أنقرة ببثّ نشاط المُسيّرة خلال جهود البحث على الهواء مباشرة، وهي خطوة يُمكن تفسيرها على أنّها محاولة من تركيا لتوظيف محنة الإيرانيين من أجل استعراض قدراتها التكنولوجية. وما يُعزّز هذه الفرضية تصريحات وزير النقل والبنية التحتيّة التركي، عبد القادر أورال أوغلو، بعد ذلك، بأنّ نظام الإشارة في مروحيّة رئيسي كان مُغلقاً أو معدوماً، لأنّ هذه التصريحات، علاوة على أنّها تُفسَّر على أنّها تدخّل من دولة أخرى في تحديد ملابسات تحطّم المروحية، فهي تُشكّك ضمناً، سواء عن قصد أو من غير قصد، بالرواية الرسمية الإيرانية، التي أرجعت الحادثة إلى سوء الأحوال الجوية، وتجنّبت الخوض في الحديث عن المشاكل اللوجستية الحساسة التي أدّت إليها. قد يكون تعمّد تركيا بثّ نشاط مُسيّرة "أكنجي" على الهواء مباشرة، خلال عملية البحث عن حطام المروحية، مُصمّماً بدرجة أساسية لاستعراض قدراتها التكنولوجية، لأنّ مساهمتها في مساعدة السلطات الإيرانية لم تكن تستدعي هذا الاستعراض، الذي أحرج الإيرانيين أمام العالم. لكن ما قد يُفسّر هذه الخطوة التركية هو أنّ أنقرة كانت تُدرك مُسبقاً أنّ الإيرانيين سيُشكّكون، في أيّ حال، في دور مُسيّرتها بالنظر إلى الاعتبارات سالفة الذكر، وقد تعمّدت إثبات فعالية "أكنجي" في هذه المُهمّة من خلال الصور التي شاهدها العالم، من دون الحاجة إلى اعتراف طهران بجهودها.
لقد خاضت تركيا وإيران سجالاتٍ كثيرة في السابق في قضايا مُختلفة، من دون أنّ تؤثّر في سياق علاقاتهما المُعقّدة والتنافسية. لكنّ السجال التركي الإيراني بشأن مُسيّرة "أكنجي" يُظهر أنّ هذه العلاقة التنافسية تبقى حاضرة، حتّى في قضايا تفرض على البلدين تحييد عامل المنافسة فيها لاعتبارات إنسانية.