متاهات فاروق وادي
أخبر الروائي والقاص الفلسطيني، فاروق وادي، والذي توفي أخيرا عن 73 عاما، قرّاءه، أنه منحازٌ إلى فن المقالة، "المقالة التي تنطوي على شيءٍ غامضٍ يترك أثرَه في النفس، فيجعلها جديرةً بالانتماء إلى الفن". كتبَ هذا قبل سنوات، في عموده الأسبوعي في صحيفة الأيام الفلسطينية، في مقالةٍ رأى فيها إن "الطبيعة الاستهلاكية للجريدة باتت تستدعي، لدى الكثير من الكتّاب، أن يدبّجوا مقالاتٍ استهلاكيةً تتميّز بالسرعة والخفّة، ما أسهم في تبديد السمات الفنية للمقالة، ووجودها كفنٍّ مستقلٍّ جدير بالاحترام". يُبلغنا أنه تحدّث في هذا الأمر مع صديقه وأستاذه (بتعبيرِه) القاص (الراحل)، خليل السواحري، وقال له "إن إنتاج قصةٍ قصيرةٍ جيدةٍ هو أفضل من إنتاج روايةٍ ضئيلة القيمة. كما أن إنتاج مقالةٍ تتركُ أثرَها في القارئ أفضل من إنتاج قصّةٍ تمضي من دون أن تتركَ أي أثرٍ في نفس المتلقي". .. وهنا، أجدني أبصُم، بحماسٍ غزير، بالعشرة على ما أفضى به في هذا الأمر فاروق وادي، أحد أهم كتّاب المقالة الثقافية في الصحافة العربية منذ عقود. وأراني ألحّ على صفته هذه، في معرض تعداد شمائل كتابة هذا المثقف الرائق، روائيا نابها، وقاصّا حاذقا، ورسّاما موهوبا، وكاتبا للأطفال مجِدّا، وناقدا ذوّاقةً، و...، لأقول، بلا تزيّد، إنه علامةٌ خاصةٌ بين أبناء جيله من كتّاب المدوّنة الفلسطينية، وهو الذي دلَّنا على اسمه، إبّان كنّا طلابا في الجامعة، لمّا قرأنا كتابه، المميّز حقا، "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" عن غسّان وحبيبي وجبرا، بعد صدوره في 1981، ثم رحنا نفتّش عن روايته السابقة "طريق إلى البحر" (1980)، وعن مجموعته القصصية التي لا أتذكّر أني عثرتُ عليها "المنفى يا حبيبي" (1976).
أن تقرأ أول مرّة لفاروق وادي يعني أن تعتاد قراءَته تاليا، بأُلفةٍ ومحبّةٍ. ولستُ هنا في معرض تعداد كتبه الخمسة عشر، وإنما في معرض غبطتي بكتابه "متاهات الكتابة .. نبيع الكلمات، الحكايات، والأحلام" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2022)، والذي يضم 68 مقالة (ونصّا بدلا من خاتمة)، اختيرت من "عواميد" نشرها في سنواتٍ مضت، استُلّت العباراتُ في مطلع هذه السطور من واحدةٍ منها، استطبْتُها كثيرا، ليس فقط لأنها تطابقَت مع مزاجي، وأنها وافقت قناعتي، بل أيضا لأن كاتبا عربيا، بديعا، هو فاروق وادي، يقيمُ على احترام المقالة الصحفية بوصفها مُنتَجا يلزَم أن يترَك أثرَه في النفس، وجنسا من الكتابة له سماتُه الفنية. ونادرون هم الكتّاب العرب، من قماشة فاروق، يحفلون بأمرٍ كهذا. ونادرون أكثر من يكتبون مقالةً ثقافيةً، عالية السويّة، ثريّةً بالمعرفة، ذات كثافة ومذاق، في مستوى ما يجتمع في هذا الكتاب من مقالات، كان من نباهة فاروق (ومكره!) أنه نزع عناوينَها التي نُشرت بها في "الأيام" وغيرها، وأنه "تعمّد" عدم تأريخِها. وكأنه يقصد القول إن المقالة الناجحة تتجاوز وقتها، وتعبر أي زمن، على غير ما تسترسل فيه الرطاناتُ إياها عن "ظرفية" المقالة الصحفية.
يفتتح فاروق وادي كتابَه بتقديمٍ يسوّغ القول عن متاهاتٍ للكتابة، ويوضح أن الكِتاب يكتفي بالتأمّل وتقديم شذراتٍ تشكّل منطلقاتٍ لكتاباتٍ أشمل، "وتأسّس وتنامى عبر تجربةٍ ممتدّةٍ في القراءة والمشاهدة والسماع والتأمل". وهذا دقيقٌ تماما، فالطواف في نصوص الكتاب مع رواياتٍ وأفلامٍ وسير وأسفار وخواطر وتجارب ومواقف ومفارقاتٍ و... يستنفر فيك انجذابا خاصّا إلى ما توحي به أفكار فاروق وادي، وتأمّلاته، من أسئلةٍ واجتهاداتٍ، وقبل هذا كله، إلى إعجابٍ مؤكّدٍ بالتواضع العالي الذي يتبدّى واحدةً من سجايا طيبةٍ في فاروق وكتابته. .. يبتهج بوجود نسخةٍ من روايته الأولى في مكتبة جامعة بير زيت مدة 15 عاما، غير أن شخصا واحدا استعارَها في كل هذه السنوات، فيسأل: هل نكتُب لكي نكتب؟ وذلك بعد أن يأتيه شعورٌ بأن الجهد المبذول في الكتابة أشبه بالرقص في العتمة، غير أنه تاليا يرى إن "الوهم" يظلّ سببا أساسيا لمواصلة الكتابة، وهم أننا نكتب "دُرَرا" تستحقّ أن تُكتب، ووهم أن الجماهير "النهمة" للقراءة، و"المتعطّشة" لكتاباتنا، لم يعد لديها من همومٍ سوى أن تتلقّف ما تُنتجه أقلامنا، وهو الوهم الذي تُبدّده، ولو إلى حين، قناعةٌ تكاد تكون راسخةً، بأن الدّرر لا تصنعها الكلمات، وأن الجماهير المتخمة من الكلام .. لا تحتاج إلى مزيد من الكلام".
.. أقام فاروق وادي طويلا على نبذ الأوهام، ومحاربة كل ادّعاء، فكان كثيرٌ مما كتب بديعا.