متى تنتهي الحرب؟
هناك، في الفيلم المصري "ثرثرة فوق النيل" (عن رواية نجيب محفوظ)، المُنتَج في 1971، يسأل واحدٌ من السُّكارى في عوّامة التحشيش، وهي في النيل، واحدا من "الشلّة": متى تنحلّ أزمة الشرق الأوسط؟ فيكون الجواب إن أزمة الشرق الأوسط ستنحلُّ عندما نقرأ في "الجورنال" إنها حُلّت... على غير ذلك العبث، الطريف (والجريء ربما) في الفيلم غير المنسي، وبكل جدّيةٍ، ليس من جوابٍ على السؤال المُتعِب، المؤرّق: متى تنتهي الحرب في قطاع غزّة؟ سوى أنها ستنتهي عندما نقرأ خبرا عاجلا على شاشة التلفزيون يُعلن فيه رئيس حكومة دولة الاحتلال، نتنياهو (أو غيرُه؟) أنها انتهت... ببساطةٍ، لأنّ كل كلام، صحيحٍ أو صحيحٍ بعض الشيء، عن فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أيٍّ من أهداف الحرب، كما حدّدها المستوى السياسي، لا يسوقُ إلى أن هذا الفشل يأخُذ صنّاع القرار هناك إلى إنهاء الحرب. وأيضا، إذا أفلح كارهو نتنياهو، في الحكومة وخارجها، في إطاحته، لن يعني هذا أن ثمّة بين القنافذ أملس، فالقرارُ راجحٌ باستمرار الحرب إلى موعدٍ يتخيّره الجيش، تبعا لحساباته التي ليس منها، بالضرورة، وجود نتنياهو أو مغادرتُه، ولا أعدادُ القتلى المتزايدة من الضبّاط والجنود. أما إدارة بايدن في واشنطن، فالرأي عندها أن الأولوية ليست لشأنٍ نافلٍ كهذا (وقف إطلاق النار)، وإنما لتيسير الملاحة في البحر الأحمر وردع الحوثيين، وعدم اتّساع الحرب إلى مدىً غير مستحبٍّ في لبنان. وفي الغضون، قد يثرثر متحدّث أميركي عن مرحلةٍ أخرى من الحرب ضد "حماس" في قطاع غزّة (ليسمّيها من أراد مرحلةً ثالثة)، تكون نوعيّةً ومركّزة. وإذا زاد عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين عن 120 يوميا، على ما هو جارٍ، فكلّ الحقّ مع من أراد أن يتبرّم من هذا. وبشأن الحاكم العربي، لا مدعاة للسؤال في أمرِه، فهو يتفرّج، مثلنا نحن الرعايا، على التلفزيون، ويُزاول أشغالَه بالعاديّة التقليدية المعهودة.
أوّل القول ومُنتهاه، يقدِر أيٌّ منّا، سيّما إذا كان صاحب مَلَكاتٍ في استبصار الأمور، أن "يُمنطِق" مقدّماتٍ لنتائج، قد يبدوان مقنعيْن ومتماسكيْن، لكنه، غالبا، لن يُصيب عندما يرجّح موعدا لانتهاء الحرب التي نُخطئ، في تسميتها حربا، ونضطرّ لهذه التسمية إجرائيا، ليس لضعفٍ في معلوماته ومقارباته، وإنما لأنهم هناك، في أركان جيش الاحتلال، يطبُخون قرار الاستمرار في العدوان أو وقفًه، وبالكيفيّات التي يريدون، بناءً على معطياتٍ أخرى، أولّها أن القرار، في أصله منذ اليوم الأول، قتلُ أكبر عددٍ من ناس قطاع غزّة، وتهديم كل ما أمكن هدمُه وتدميرُه، لا يغلّ أيدي العسكر المُشاة والمدرّعين والطيّارين أحدٌ، طالما أنه مرخّصٌ لهم بأن لا يتحسّبوا من أيّ اعتبار.
ولكن، لم يحدُث أن استمرّت حربٌ إلى الأبد؟ هذا صحيح، لكن القصّة ليست هنا، وإنما في عُسر تعيين أي موعدٍ محتملٍ لاكتمال شهوة القتل والتمويت والتهديم في قطاع غزّة لدى رؤوس العدوان في حكومة المحتلّين والجيش. ليس الوقوعُ على الذي في أدمغة هؤلاء ميسورا. إنه ليس في سهولة استرسال الكلام عن خلافات غانتس مع نتنياهو وكراهية الأخير وزير الدفاع غالانت، وعن عدم سماح رئيس الحكومة لرئيسي الشاباك والموساد بحضور اجتماعاتٍ وزارية (ماذا لو سَمح لهما؟). في المقدور أن يُستَفاض في هذا كله، فالصحافاتُ والتلفزاتُ الإسرائيلية تغذّينا بوفيرٍ منه، إلى الحدّ الذي قد يُشعر من يستطعم متابعة هذه القصص في وسائل الإعلام الإسرائيلية بأنه يعرف كلّ شيء، كما الذين يشاركون في هذه الاجتماعات.
متى يصل صنّاع القرار في إسرائيل إلى القناعة بنهاية الحرب؟ لن تُعطيهم كتائب القسّام وشقيقاتُها في المقاومة الفلسطينية المسلّحة أيا من الأسرى، بغير الشروط المعلنة. والظاهر أن إعادة هؤلاء أحياء ليست أولوية الأولويات، في مطبخ القرار في تل أبيب، بدليل عملية طبخ الحصى المملّة في مفاوضاتٍ ومداولاتٍ واتصالاتٍ تبدو مقصودةً لذاتها. ... إذن، متى تنتهي الحرب؟ قد يحدُث، لا سمح الله، وهذا مستبعدٌ وعسيرٌ، أن يتمكّنوا من قادةٍ بارزين في المقاومة، وقد يُحرزون إنجازاتٍ عسكرية، لكن الإجهاز على "حماس" من سابع المستحيلات. ليس هذا قولاً في فراغ التمنّيات المشتهاة، وإنما واحدةٌ من حقائق تؤكّدها ثرثراتٌ إسرائيليةٌ مُضجرة، لا يقترب أيٌّ ممن يخوضونها من موعدٍ، ممكنٍ أو محتملٍ أو مرجّح، لنهاية العدوان الطويل، القاسي والباهظ الوحشية، نهايةٍ لا نملك غير انتظار خبرٍ عاجلٍ على الشاشة يُبلِغ عنها.