متى تُنجز القاعدة الدستورية الليبية؟
من المفترض أن تكون القاعدة الدستورية التي تُسيِّر الانتخاب والتوافق الليبي في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل جاهزة الآن، باعتبار أن الموعد المضروب للانتخابات في نهاية العام الجاري يجب أن يكون حقيقياً، ولا يقبل التأخير أو التأجيل، كونه أساساً للتوافق الذي نشأت على أثره وبمقتضاه حكومة الوحدة الوطنية في البلاد. يعتبر النظام أو القانون أو الدستور الذي ينظم الحياة السياسية في البلاد مهما للسير بها نحو بر الأمان، وإنهاء المراحل الانتقالية المتتالية من عمر الثورة الليبية، الأمر الذي يستدعي من اللجنة القانونية الموكلة بإنجاز هذا التنظيم الدستوري أن تراعي فيه التوافق، وأن يكون واضحا لا يمكن الاختلاف فيه، أو عليه، كما يجب أن يُراعي التوجّهات المجتمعية المختلفة، والخصوصية الليبية ككل، وأن يكون شكل السلطة التشريعة واضح المعالم والمهام، لكي تُنْهي المراحل الانتقالية، وتَصل بالدولة إلى المرحلة الدائمة والاستقرار.
برزت أخيرا على السطح نقاط اختلاف من اللجنة القانونية الموكلة بإنجاز القاعدة الدستورية من ملتقى الحوار السياسي، أهمها: الانتخاب المباشر للرئيس من الشعب، أو انتخابه من قبة البرلمان. وقد أحيلت هذه النقطة الخلافية، كما ظهر للعلن، إلى ملتقى الحوار السياسي للفصل فيها، لتكون القاعدة الدستورية تحمل المقترحين، بالانتخاب المباشر للرئيس، أو غير المباشر.
وحقيقةً، تعتبر مسألة الاختلاف على انتخاب الرئيس بالغة الصعوبة، باعتبار أنها تحمل آثاراً قد تكون إيجابية أو سلبية في استقرار الدولة من جهة، أو العودة بها إلى المربع الأول من جهة ثانية، وكذلك إن لم تكن هذه الخطوة مدروسة ومقننة، قد ينشأ عن الاختلال فيها نظام ديكتاتوري جديد بطريقةٍ أو أخرى، باعتبار أن الدستور الدائم للبلاد لم يوجد بعد، وبالتالي قد "يُصنعُ" دستور في مراحل متقدّمة يتناسب مع ديكتاتورية جديدة بالمقاس والتفصيل، عند الوصل إلى الحكم عن طريق هذه القاعدة المؤقته غير المنضبطة بالمرحلة الدائمة من عمر البلاد، وهذه مخاوف واقعية. وبالتالي، فإن إيجاد دستور دائم للبلاد مستفتى عليه من الشعب صمّام أمان لعدم التفرّد بالسلطة، وأن يكون ذلك واضحا من ناحية الإجراء والتوافق، سواء في القاعدة الدستورية أو ما يستجدّ بعدها.
تباين كبير في الآراء، ليس على مستوى النخب فحسب، بل على المستوى الشعبي، في شكل المرحلة المقبلة من عمر الدولة
اعتُمد على ما يبدو في القاعدة الدستورية المحالة أخيرا إلى ملتقى الحوار الليبي على تعديل الإعلان الدستوري الصادر في 3 أغسطس/ آب 2011، عن المجلس الوطني الانتقالي الذي أنشئ على أثر ثورة فبراير لتسير البلاد مؤقتاً، غير أن هذا الإعلان تَمَّ تعديله أكثر من مرة، وكان من أولوياته انتخاب "المؤتمر الوطني العام" ليؤسس دستورا للبلاد، غير أن هذا لم يكن. كما أن الفارق في الرجوع إليه وجعله أساسا في القاعدة الدستورية هو: "تأجيل الاستفتاء على مشروع الدستور" إلى حين انتخاب السلطة التشريعة الدائمة في البلاد، وهذه مفارقةٌ غير واقعية، باعتبار أن الإعلان الدستوري يجب أن يؤسّس لدستور دائم للبلاد وليس العكس.
في المقابل، وجدت سابقة في تكوين القاعدة الدستورية في البلاد، والتي كان لها أثر سيئ من عمر الدولة، ففي 2014، شكل "المؤتمر الوطني" لجنةً وظيفتها إنشاء قاعدة دستورية، وأطلق عليها حينها "لجنة فبراير"، وانتخب بمقتضاها أعضاء مجلس النواب، غير أن المحكمة العليا قضت ببطلان تلك القاعدة، وما ترتّب عليها من تكوين للبرلمان، باعتبار أنها لم تُضمّن في الإعلان الدستوري بشكل صحيح وسليم.
المسار الدستوري في ليبيا من أشد المسارات تعقيداً
وبالتالي، المسار الدستوري في ليبيا من أشد المسارات تعقيدا، إذا قورن بالأخرى، السياسية والاقتصادية. ولا مبالغة في القول حتى الأمنية منها، باعتبار أنه يؤسّس لمرحلة دائمة من الاستقرار في حالة النجاح، ويؤسّس لنقيضها في حالة الفشل. ومن جهة أخرى، هناك تباين كبير في الآراء، ليس على مستوى النخب فحسب، بل على المستوى الشعبي، في شكل المرحلة المقبلة من عمر الدولة، كما أن المقترحات في هذا الشأن متعدّدة ومختلفة، لعل أبرزها الاستفتاء على مشروع الدستور قبل الدخول في أي عملية سياسية، أو حتى تعديله. وهناك من يدفع إلى تأجيل الاستفتاء، والنظر في الدستور إلى ما بعد هذه المرحلة، وصولاً إلى مرحلة تجديد السلطة التشريعية في البلاد، والاستقرار ولو جزئيا، وذلك لتحقيق إجراء الانتخابات في موعدها، ومن ثم النظر إلى مسألة الدستور باعتبار أن عامل الوقت هو المحدّد الرئيس لذلك، ولا يسمح بإجراء كليهما، الاستفتاء والانتخاب، في الموعد المقرّر.
ومن المفارقات في اعتماد هذه القاعدة أنها أوكلت إلى ملتقى الحوار السياسي من دون ذكر تفاصيل الاعتماد أو الاتفاق على الآلية في ذلك، ما يفتح باب الاختلاف مجدّدا في آلية التصويت التي أثارت جدلاً ونقاشاً واسعاً عند اختيار السلطة الجديدة أخيرا، كما أن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة مطالبان بإقرار هذه القاعدة الدستورية والتشريعات اللازمة لإنجاح التوافق، وتجديد السلطة التشريعة في البلاد، وهذا هو الفيصل في نجاح التوافق الليبي أو فشله، وهو الذي سيكون له ما بعده إيجاباً أو سلباً من عمر الدولة والثورة.