مجزرة ودّ النورة في السودان
تردّدت منذ الأربعاء الماضي أنباءٌ عن مجزرة في قرية ودّ النورة بولاية الجزيرة السودانية، راح ضحيتها ما لا يقل عن مائة مدني. يتحدّث الأهالي في شهاداتهم عن قتل عشوائي تعرّضوا له، وعن كيفية اضطرارهم إلى الفرار خارج القرية ودفن قتلاهم سريعاً. بطبيعة الحال. وتتّجه الاتهامات إلى "الدعم السريع" بارتكاب المجزرة التي لا تعدّ الأولى منذ بدء الحرب بين الجيش و"الدعم السريع"، وليست الأولى التي يتنصّل فيها طرفا الحرب من المسؤولية، سواء المباشرة عن ارتكاب المجزرة، عبر إطلاق النار مباشرة على المدنيين، أو غير المباشرة، جرّاء الإصرار على فتح جبهات ومعارك بين الأحياء السكنية. وثقافة الإفلات من العقاب المُتجذّرة لدى الطرفَين، تجعلهما يتماديان في جرائمهما بحقّ المدنيين، من دون الأخذ بالاعتبار توافر أيّ احتمال، ولو ضئيلاً، لأن يُحاسبا، ولو بعد حين، ولهما في عمر البشير "خير" نموذج يمكن الاقتداء به، إذ أوغل البشير في ارتكاب جرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانية في دارفور، ورغم صدور مُذكّرة توقيف بحقّه من المحكمة الجنائية الدولية، بقي بعدها في الرئاسة نحو عقد، ولم يوفّر فرصة إلا وسخر فيها من المحكمة. وحتّى بعد إطاحته، لم يجرؤ العسكر على تسليمه، ليس فقط لأنّهم شركاء له في الجرائم، بل لأنّهم يعون أنّ سابقة كهذه غير مسموح بها في بلد اعتادوا فيه تفجير الحروب وارتكاب المجازر.
يدفع السودانيون منذ أكثر من عام ثمن حرب الجنرالات، وغياب أيّ أفق لحلّ سياسي. ضُرِب الموعد تلو الآخر لاستئناف مفاوضات جدّة بين الطرفَين، برعاية أميركية وسعودية، من دون أن يتمكّن طرفا الوساطة من تحقيق ذلك. يبدو في العلن موقف الجيش أكثر تشدّداً في ما يتعلق برفض الانخراط في أيّ محادثات مع "الدعم السريع"، سواء أكان الترتيب لذلك في جدّة أو حتّى في القاهرة. ويقرن الجيش، في الآونة الأخيرة، رفضه بحضور أو بمشاركة دول أو منظّمات داعمة لقوات الدعم السريع، سواء عربية أو إقليمية. لكن، فعلياً، ليس لدى أيّ من الطرفَين مصلحة في الجلوس إلى طاولة المفاوضات مرّة جديدة حالياً، حتّى لو تعلّق الأمر ببحث قضايا إنسانية وإدخال المساعدات، وعدم الخوض في تفاصيل عسكرية أو سياسية.
يمتلك الجيش والدعم، على حدّ سواء، قناعة زائفة بأنّ بإمكان كلّ منهما حسم المعركة على الأرض، أولاً، ثمّ إجبار الطرف الآخر على التفاوض من موقف الضعيف أو الخاسر، وبالتالي، تحقيق انتصار عسكري وسياسي. لكن، عملياً، بعد أكثر من عام على الحرب، فإنّ جميع المُؤشّرات تفيد عكس ذلك، ولا تكاد موازين القوى العسكرية تميل قليلاً باتجاه الجيش أو الدعم أو تدخل في مرحلة من الجمود، حتّى تحدث تطوّرات تعيد تعديل الكفّة. وحتّى الحاضنة الشعبية للطرفَين ليست ثابتة، ولا حتّى المظلّة السياسية. فعلياً، لم يكن بإمكان طرفَي الحرب التمادي وصولاً إلى ارتكاب المجازر من دون أن يرفّ لهما جفن لولا حالة العجز السياسي المُهيمنة على المشهد السوداني، منذ بدء الحرب حتّى اليوم.
صحيحٌ أنّ مبادرات سياسية تخرج باستمرار تتحدّث عن ضرورة وقف الحرب والعمل على حلّ سياسي وإصلاحات شاملة في الدولة والمؤسّسات العسكرية والأمنية، لكنّ تعدّد هذه المبادرات وتشتّتها، يستغلّه العسكر بإتقان، إذ يجنّبهما هذا الوضع أيّ ضغط حقيقي باتجاه وقف الحرب. وعلى عكس ما كانت عليه الأوضاع منذ أواخر 2018، خلال فترة الحراك الشعبي ضدّ عمر البشير، قبل إطاحته وما تلاها من تحوّلات في المشهد، فرضت فيه القوى السياسية إلى جانب اللجان الشعبية والنقابات المهنية نفسها عنصراً أساسياً لا يمكن تجاوزه، يبدو العسكر في هذه المرحلة قادرين على التحكّم منفردين بالمرحلة، متسبّبين بالويلات والمجازر.