محاكمة سارتر للمساس بقيم الأسرة المصرية
من يحدّد جدول أعمال الرأي العام المصري؟ سؤال مهم يدور مع كل قضية دينية أو فنية أو اجتماعية أو رياضية يتلقفها النقاش العام، ليتم إثارتها ويدور حولها الجدل بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يعرض كل متابع لرأيه الخاص، وتؤدّي إلى استقطابٍ حولها إلى اتجاهين أو أكثر، حتى تنتهي، بعد أيام، لتبدأ قضيةٌ أخرى وهكذا. ويعبر ذلك عن ظاهرة أكبر تشهدها مصر، وهي الاستغلال الرسمي لوسائل التواصل، والتي باتت أسرع وأسهل تداولا للمواطن المصري، بالمقارنة بوسائل إعلام وصحف عريقة باتت لا يتابعها أحد بسبب غياب مصداقيتها لدى الجمهور.
ومن ضمن هذه القضايا التي تم تناولها أخيرا في مجلس النواب ما أثاره النائب الوفدي، أيمن محسب، حيث قدّم طلب إحاطة لوزيرة الثقافة، إيناس عبد الدايم، عن تقديم مسرحية "المومس الفاضلة" على المسرح القومي، ستقوم ببطولتها إلهام شاهين، وتخرجها المسرحية العريقة سميحة أيوب، وذلك لتحرّجه من اسم المسرحية. داعيا إلى ضرورة تشديد الرقابة على الأعمال الفنية، بما يضمن تحقيق التوازن بين ما يقدّم من جرعة فنية وثقافة المجتمع.
تغيب وسائل الرقابة البرلمانية باتجاه ممارسات السلطة التنفيذية، وبشكل خاص تقديم استجوابات للوزراء أو للحكومة بشكل عام
وسبق لأيوب أن قامت ببطولة هذه المسرحية في ستينيات القرن العشرين في المسرح التابع للدولة، حيث شهد عرضها مؤلف المسرحية، جان بول سارتر، الذي توفي عام 1980. وتتعلق أحداث المسرحية بواقعة حقيقية في الولايات المتحدة، تُعرف إعلاميا بـ"فتية سكوتسبورو"، بشأن فتاة ليل تدعى ليزي، وهي الشاهدة الوحيدة على واقعة تعدّي رجل أبيض على فتاة ليل داخل قطار، ولكن الاتهامات توجّه إلى راكب أسود البشرة، يهرُب في محاولةٍ لإثبات براءته. وتتعرّض ليزي لضغط شديد من والد الرجل الأبيض، الذي يعمل سيناتور في مجلس النواب الأميركي، في محاولة لجعلها تشهد ضد الرجل الأسود في المحكمة، وأمام رفضها، يهدّدها بالقبض عليها بتهمة ممارسة البغاء.
وتذكّرنا هذه القضية بالنقد الذي جرى أخيرا تحت قبة البرلمان المصري لفيلم "ريش"، الذي عرض في مهرجان الجونة السينمائي الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، ويعرض أسرة شديدة الفقر، تقوم الزوجة الأم بمسؤولياتها لتوفير احتياجات الأسرة. حيث اعتبره نائب آخر فيلما "مسيئا لمصر"، ولا يقدّم الصورة الحقيقية لمصر، ويشوه الصورة الداخلية عالميًا.
ومرة أخرى، يثبت مجلس النواب المصري وقوفه ضد حريات الرأي والتعبير، وهو ما ينعكس في القوانين الصادرة عنه، والمحالة إليه من السلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية، والتي لا تشهد أي نقاش حقيقي، على الرغم من تأثيرها على المواطن واحتياجاته الاقتصادية والاجتماعية، كما تغيب وسائل الرقابة البرلمانية باتجاه ممارسات السلطة التنفيذية، وبشكل خاص تقديم استجوابات للوزراء أو للحكومة بشكل عام. وهذا أحد الأعضاء يطالب منع هذه المسرحية وتغيير اسمها، لأنها لا تليق بتقاليد المجتمع المصري وقيمه، الاتهام الذي وضع في القانون 175 لسنة 2018، الخاص بمكافحة جرائم تقنية المعلومات، حيث تضمّن الاعتداء على مبادئ أو المساس بمبادئ الأسرة المصرية وقيمها اتهاما ضد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. وبالفعل، عوقبت فتيات قدّمن فيديوهات على تطبيق "التيك توك".
يثبت مجلس النواب المصري وقوفه ضد حريات الرأي والتعبير
ومن الملاحظات في هذا الشأن أن إثارة هذا الأمر تأتي في إطار مناخ خانق للحريات، وتحكّم للسلطة في وسائل الإعلام الخاصة والمستقلة، وتقييد حرية الرأي والتعبير، وأن مجلس النواب يبتعد عن مهمته الأساسية بالدفاع عن هذه الحرّيات، وممارسة دوره في التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية، بما يلبّي احتياجات المصريين ومطالبهم الأساسية وتمتعهم بحقوقهم. ويكشف هذا التصرّف عن عقلية معادية لحرية الإبداع الفني، وغياب للمتابعة النقدية لمضمون المسرحية المشار إليها، أو برسالتها ضد العنصرية الممارسة ضد السود الأميركان وقتها. ويأتي هذا التصرّف ضمن محاولاتٍ من أجهزة الدولة التنفيذية والإعلام المعبر عن النظام لخنق حريات الرأي والتعبير، ومحاولات الوصاية الأخلاقية على عقول المصريين، سواء عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، مثل التيك توك، أو عبر البث المباشر على "فيسبوك" و"يوتيوب" بمبرّر إفساد أخلاق المصريين. وتمثل هذه الإجراءات نوعا من الحسبة السياسية التي يمارسها أعضاء في البرلمان، والحسبة القانونية التي يقوم بها محامون قريبون من السلطة بمبرّر تطهير المجتمع، بتقديم بلاغات في النيابة العامة ضد فتيات بثثن فيديوهاتٍ على "تيك توك"، وأدّت إلى إصدار أحكام قضائية عليهن.
ليست هذه الظاهرة جديدة على الساحة المصرية للأسف، بل ترجع إلى عقود سابقة من خلال مصادرة بعض الكتب المهمة، مثل "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، و"وليمة لأعشاب البحر" للسوري حيدر حيدر. ومن هذه المعارك الأدبية منع رواية "كأن" للمعارض علاء الأسواني، وهي ظاهرة تقمع حرية الإبداع والرأي والتعبير، سواء من خلال الرواية واستخدام الرمز للتعبير عن رؤية سياسية واجتماعية لمشكلات المجتمع، أو من خلال الفن السينمائي والمسرح.
وتمثل هذه الظاهرة نوعا من إشغال المجتمع بقضايا هامشية، فلا يبدو أن النائب أو غيره من الناقدين قد قرأوا المسرحية أو مضمونها على الأقل، ولا عرفوا شيئا عن كاتبها الذي رحب مناخ الستينيات الثقافي بعرض مسرحيته، بل وتنظيم لقاء لسارتر والكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار مع صحفيين وكتّاب مصريين، وعقد لقاء مع جمال عبد الناصر بحضور محمد حسنين هيكل، في مارس/ آذار 1967، طرح فيها سارتر أسئلة بشأن الثورة المصرية وحقوق الإنسان وموضوعات أخرى.