09 نوفمبر 2024
مدرسة غسان كنفاني
ليس دقيقاً أن نافذين في حركة حماس في مديرية التربية والتعليم في قطاع غزة أقدموا على تغيير اسم مدرسة غسان كنفاني للبنات في رفح، إلى مدرسة مرمرة. ويبدو صحيحاً إيضاحٌ أن مدرسة جديدة هي التي أخذت الاسم الجديد. وليس دقيقاً أن مقتل نحو 70 مهاجراً، أغلبيتهم سوريون، اختناقاً في شاحنة برّاد لنقل لحوم الدجاج، يوم الخميس الماضي في ولاية حدودية نمساوية، يشابه مقتل مروان وأسعد وأبو قيس، في شاحنةٍ على الحدود العراقية الكويتية، في رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس". ولا يعني عدم نزع حماس اسم غسان من تلك المدرسة أن الحركة الإسلامية مولعة بالكاتب الفلسطيني الشهير. كما أن عدم المماثلة بين السوريين الضحايا في الواقعة النمساوية والفلسطينيين الثلاثة المتخيّلين في واقعة بصراوية لا ينزع الوجاهة عن القول إن الانتهازية التي بلا حساسية بشأن حياة البشر، كما تبدّت لدى أبو الخيزران، المأزوم لفقده رجولته، في الرواية التي صدرت قبل 52 عاماً، هي الانتهازية نفسها لدى مالك تلك الشاحنة الباردة وسائقها، ولدى كل تجار الموت المهرّبين الذين لا تعنيهم حياة السوريين في شيء.
كانوا رجالاً في الشمس، بدا غسان كنفاني في روايته الباقية تلك يدينهم، فهم مهزومون في دواخلهم، قضوا في ذلك الخزان من هول سخونة الحرارة المفرطة. أما الضحايا الجدد في التغريبة السورية الماثلة، فقد قضوا في الشاحنة البرّاد من فداحة الصقيع المفرط. لا تشعر بتعاطف كثير تجاه أولئك، وقد أتقن توفيق صالح تظهيرهم في فيلمه "المخدوعون"، أما هؤلاء الذين تعدد قتلتهم، من بشار الأسد وصولاً إلى مهرّب بلا أخلاق مروراً بالصامتين، في كل الأرض، على المحنة السورية الرهيبة، فليس التعاطف معهم كافياً، بل ثمّة حاجة إلى شجاعة الجهر بأن هذه المحنة كشفت، للمرة المليون ربما، عن أن قيعان الوضاعة التي تقيم فيها الإنسانية، راهناً، بلا حدود.
هي مدرسة غسان كنفاني الأدبية والإنسانية، تيسّر الوقوع على هذه المفارقة بين رجالٍ يقتلهم الهجير بعد أن قتلتهم تصاريفٌ وأقدارٌ شخصية عبروا فيها، وناس قتلهم الصقيع، بعد أن قتلتهم ضمائر ميتة في دمشق وعواصم عربية، وفي واشنطن وطهران وموسكو وغيرها. في مدرسة غسان أربع روايات وأربع مجموعات قصصية ومسرحيتان وثلاثة كتب عن ثورة 1936 وأدب المقاومة المبكر والأدب الصهيوني، وفيها أيضا روايات لم تكتمل وقصص للأطفال ولوحات تشكيلية ومقالات في الحياة والسياسة والأدب. أنجز الكاتب الكبير ذلك كله، وهو الذي قضى عن 36 عاما في جريمة اغتيال إسرائيلية غير منسيّة. وقد وقع العدو الصهيوني على خطورته، وتمثيليته ورمزيته، فقد وازى غسان غزارته في إنجاز إبداعاتٍ رفيعة في الآداب والفنون، ذات مضامين إنسانية الأفق، تنهض على إيمانٍ بفلسطين والمقاومة، مع فاعليّته في تشكيلٍ كفاحي وسياسي فلسطيني، قيادياً في الجبهة الشعبية، وصاحب دور إعلامي وثقافي خاص في الأثناء كلها.
كان غسان وفياً لمتطلبات الأدب واستحقاقاته الجمالية، فتبدّت في رواياته وقصصه تنويعاتٌ أسلوبية وبنائية وتجريبية لافتة، جعلته يستحق مكانته الجوهرية في تحديث السرد الفلسطيني. ولا تزيّد في اعتبار هذا الوفاء، وذلك الانقطاع إلى العمل والإنجاز، وكذا الإخلاص للأدب والفن، كما مزاولته حضوره مثقفاً عضوياً حقيقياً في شعبه وأمته، من مضامين مدرسة الكاتب الذي استشهد قبل ثلاثة وأربعين عاماً، وقد بقيت قيم هذه المدرسة، ومناقبها الوطنية والأخلاقية والكفاحية، ومعمارها الجمالي والثقافي والأدبي والفني، على رفعتِها وبهائها. وهذه واقعة إشاعة نزع اسمه عن مدرسةٍ في رفح تشعل غضبا فلسطينياً ملحوظاً، وهذه محنة سوريين فرّوا من محدلة الفتك والتمويت في بلدهم، ثم قتلوا مجمّدين مخنوقين في برّاد في مهجر أوروبي، تتيح استدعاء فلسطينيين أقاموا في مخيّلة غسان، ثم فرّوا إلى صحراء عربية، ذات شواظٍ بعيد.
كانوا رجالاً في الشمس، بدا غسان كنفاني في روايته الباقية تلك يدينهم، فهم مهزومون في دواخلهم، قضوا في ذلك الخزان من هول سخونة الحرارة المفرطة. أما الضحايا الجدد في التغريبة السورية الماثلة، فقد قضوا في الشاحنة البرّاد من فداحة الصقيع المفرط. لا تشعر بتعاطف كثير تجاه أولئك، وقد أتقن توفيق صالح تظهيرهم في فيلمه "المخدوعون"، أما هؤلاء الذين تعدد قتلتهم، من بشار الأسد وصولاً إلى مهرّب بلا أخلاق مروراً بالصامتين، في كل الأرض، على المحنة السورية الرهيبة، فليس التعاطف معهم كافياً، بل ثمّة حاجة إلى شجاعة الجهر بأن هذه المحنة كشفت، للمرة المليون ربما، عن أن قيعان الوضاعة التي تقيم فيها الإنسانية، راهناً، بلا حدود.
هي مدرسة غسان كنفاني الأدبية والإنسانية، تيسّر الوقوع على هذه المفارقة بين رجالٍ يقتلهم الهجير بعد أن قتلتهم تصاريفٌ وأقدارٌ شخصية عبروا فيها، وناس قتلهم الصقيع، بعد أن قتلتهم ضمائر ميتة في دمشق وعواصم عربية، وفي واشنطن وطهران وموسكو وغيرها. في مدرسة غسان أربع روايات وأربع مجموعات قصصية ومسرحيتان وثلاثة كتب عن ثورة 1936 وأدب المقاومة المبكر والأدب الصهيوني، وفيها أيضا روايات لم تكتمل وقصص للأطفال ولوحات تشكيلية ومقالات في الحياة والسياسة والأدب. أنجز الكاتب الكبير ذلك كله، وهو الذي قضى عن 36 عاما في جريمة اغتيال إسرائيلية غير منسيّة. وقد وقع العدو الصهيوني على خطورته، وتمثيليته ورمزيته، فقد وازى غسان غزارته في إنجاز إبداعاتٍ رفيعة في الآداب والفنون، ذات مضامين إنسانية الأفق، تنهض على إيمانٍ بفلسطين والمقاومة، مع فاعليّته في تشكيلٍ كفاحي وسياسي فلسطيني، قيادياً في الجبهة الشعبية، وصاحب دور إعلامي وثقافي خاص في الأثناء كلها.
كان غسان وفياً لمتطلبات الأدب واستحقاقاته الجمالية، فتبدّت في رواياته وقصصه تنويعاتٌ أسلوبية وبنائية وتجريبية لافتة، جعلته يستحق مكانته الجوهرية في تحديث السرد الفلسطيني. ولا تزيّد في اعتبار هذا الوفاء، وذلك الانقطاع إلى العمل والإنجاز، وكذا الإخلاص للأدب والفن، كما مزاولته حضوره مثقفاً عضوياً حقيقياً في شعبه وأمته، من مضامين مدرسة الكاتب الذي استشهد قبل ثلاثة وأربعين عاماً، وقد بقيت قيم هذه المدرسة، ومناقبها الوطنية والأخلاقية والكفاحية، ومعمارها الجمالي والثقافي والأدبي والفني، على رفعتِها وبهائها. وهذه واقعة إشاعة نزع اسمه عن مدرسةٍ في رفح تشعل غضبا فلسطينياً ملحوظاً، وهذه محنة سوريين فرّوا من محدلة الفتك والتمويت في بلدهم، ثم قتلوا مجمّدين مخنوقين في برّاد في مهجر أوروبي، تتيح استدعاء فلسطينيين أقاموا في مخيّلة غسان، ثم فرّوا إلى صحراء عربية، ذات شواظٍ بعيد.