مذكّرات أسعد داغر .. من فيصل الأول إلى عبد الناصر
يرجع القومي العروبي، أسعد داغر، في ولادته إلى بلدة تنورين، وينتسب بحكم الولادة إلى لبنان، لكن إذا أخذنا بالاعتبار هواه وفكره، وأيضًا خطواته وترحاله العابرة للبلاد العربية، نجدنا أمام "مواطن عربي" من الطراز الرفيع، يتعلَّق انتسابه بالوطن العربي الكبير بكامله عبر المحطة الوطنية اللبنانية، فصار جديرًا، والحالة هذه، بحمل لقب "المواطن العربي الأول"، على غرار شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية، الذي تنازل عن المنصب والجاه لصالح الوحدة بين مصر وسورية، الوحدة التي اعتبرها المتفائلون في حينها فاتحة قيام الدولة - الأمة العربية. وقد كتب مؤلفاتٍ عديدة، فقد نشر كتابه "ثورة العرب .. مقدمتها أسبابها نتائجها" باسم مستعار "أحد أعضاء الجمعيات العربية السرية"، في مصر عام 1916، ثم أعيد نشره عام 1997 في بيروت، وأعادت نشره دار هنداوي عام 2014. وقد أهدى الكتاب إلى الرعيل الأول من أصحاب الفكرة العربية ممن حضروا مؤتمر باريس 1913، أو الذين قضوا على مشانق جمال باشا، فجاء في مقدمة الكتاب "ولمّا كانت ثورة العرب من نتائج هذه الحرب (الحرب العالمية الأولى)، وكانت المسألة العربية من فروع المسألة الشرقية التي أُعلنت الحرب الأوروبية من أجلها، رأينا أن نأتي في مقدمة هذا الكتاب على وصف المسألة الشرقية وبيان فروعها وإظهار مشاكلها، نظرًا لعلاقتها العظيمة بالمسألة العربية. وذلك ليكون القارئ على بينة من سير الأحوال في الماضي والحاضر، وما قد تكون عليه في مستقبل الزمان". وساهم أسعد داغر في التأليف التاريخي للعرب "حضارة العرب تاريخهم علومهم آدابهم أخلاقهم عاداتهم"، مذكرًا نفسه وقرّاءه بمساهمات العرب التاريخية في ميدان الحضارة والسياسة والثقافة. وقد أهدى كتابه التاريخي إلى الملك فيصل بن الحسين، وكتب مقدمته: "فإلى مقامكم السامي (=الملك فيصل)، أرفع كتابي هذا اعترافًا بما أوليتم العرب من الفضل العميم، وإقرارًا بمآثر بيتكم الكريم. وسترون في سير أجدادكم العظام، وما انطوت عليه صدورهم من الرحمة والعطف والعدل في الأحكام، وما ازدانوا به من مناقب سامية، وما أتوه من الأعمال الباهرة الجليلة". وبالإضافة إلى أبحاثه التاريخية والثقافية تلك، فله مساهماته الشعرية التي لم تخرج عن دائرة اهتمامه بالعروبة.
عاين داغر في مذكراته تطور الوعي العربي الذي بلغ ذروته مع تأسيس الدستور الحديث وإعلان الملكية الدستورية في سورية
تركيب "مذكراتي"
قسَّم أسعد داغر كتابه "مذكراتي على هامش القضية العربية" (تحقيق وتقديم خالد زيادة، ط2، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة 2020) إلى 12 فصلًا، يعود في الأول إلى طفولته ويفاعه، إلى اللحظة التي اكتشف فيه هويته العربية مع تعرّفه على زميله في المدرسة، رياض الصلح. وعرض في الفصل الثاني لمرحلة دراسته الحقوق في اسطنبول، والتي شهد فيها قيام الثورة الدستورية 1908، بقيادة "تركيا الفتاة" التي استبشر فيها بقيام شراكة عربية - تركية في ظل دستور ديمقراطي. وفي الفصل الثالث، قبيل الحرب العالمية الأولى، تعرَّف على الآراء العربية المتضاربة بشأن مستقبل العرب والعثمانيين. وتحدّث في الفصل الرابع عن المؤتمر القومي العربي في باريس 1913، ودعوته إلى الإصلاح الدستوري للدولة العثمانية، وانتقال العرب إلى موقع الشريك، وما جرى بعد المؤتمر من حوارات بين الزعامات العربية و"تركيا الفتاة"، وانتقال "الاتحاد والترقي" إلى سياسة التتريك ضد العرب. وانتقل في الفصل الخامس إلى فترة إقامته في مصر من سنة 1914 إلى 1919، ووعود الحلفاء للشريف الحسين، والمظالم والفظائع التي ارتكبها جمال باشا في سورية. وتحدث في الفصل السادس عن الثورة العربية الكبرى، وعن أسبابها المباشرة، وعن المثقفين العرب وثورة الحسين، ووعد بلفور. وتطلع في الفصل السابع على الأحوال في سورية سنة 1919-1920، في أثناء إقامته في دمشق، وقربه من الملك فيصل، والتحولات الدستورية، ولجنة كنغ - كراين، والرأي العام وتطور الوعي الوطني، ونوري السعيد وتحولاته السياسية. ثم توقف طويلًا في الفصل الثامن، "في مهب العاصفة"، فعاين فيه تطور الوعي العربي الذي بلغ ذروته مع تأسيس الدستور الحديث وإعلان الملكية الدستورية في سورية، ولجنة الاستفتاء في سورية واتفاق فيصل – كليمنصو، والإنذار الفرنسي. وتوقف عند قيادة يوسف العظمة معركة ميسلون التي استُشهد فيها وهو يهاجم العدو "بقنابل اليد" (ص 276). وكان قد خاطب داغر مع قادة آخرين، قبيل المعركة، قائلًا: "إنني واثق من عطف أصدقائي على طفلتي، فسأذهب مستريح البال في طريق الواجب". (ص 266). وخصص الفصل التاسع لإقامته في القاهرة 1920، عقب الغزو الفرنسي على سورية. ومرور الملك فيصل بمصر في طريقه إلى بغداد، وتعليقه الآمال على فيصل بقيادته العراق من أجل الوحدة، ومبايعة العراق فيصل ملكًا على العراق. وتحدث في الفصل العاشر عن رحلته إلى بغداد، قاصدًا الملك فيصل، معوّلًا عليه في استئناف قيادته العمل الوطني والعربي. وتحدّث عن العلاقات السعودية – الهاشمية، ومؤتمر جنيف السوري - الفلسطيني، وأضاء على دور شكيب أرسلان وإحسان الجابري في العمل العربي في أوروبا. وخصص الفصل الحادي عشر لعلاقته مع نوري السعيد، فتحدث بمرارة عنها. ثم روى، في الفصل الثاني عشر (الفصل الأخير)، عن تنقلاته بين الحربين بين البلاد العربية والأوروبية، بحثًا عن بصيص أمل لاستئناف حركة التحرّر العربي، فيتكلم على مؤتمر لندن، وظهور جريدة القاهرة، وجمعية الوحدة العربية.
شكلت المذكرات شاهدًا حيًا على ذلك التلاحم الروحي بين الكاتب وتطور الحركة العربية، فهو كتب بقلم يتصل مباشرة بالقلب والفكر
اشترك أسعد داغر بفاعليه في العمل من أجل الفكرة العربية، في وقت مبكِّر من حياته، ونشط بفاعلية في الجمعيات العربية، وأوصل صوته العربي إلى الصحافة التي انتسب إليها بطريقة مهنية مبكرًا، فبعد دراسته للحقوق في اسطنبول (1909-1914)، انتقل قبيل اشتعال الحرب إلى مصر ليستأنف نشاطه الفكري - السياسي على صفحات "المقطم"، ثم في "الأهرام"، قبل أن يؤسس صحيفته الخاصة "القاهرة"، ليكتب على صفحاتها، بمشاركة المثقفين العرب أصحاب الفكرة العربية. ولقد ساهم، وهو في القاهرة، في التحضير لقيام جامعة الدول العربية. وقد غطّى داغر في "مذكراته" الأحداث العربية الكبرى التي عرفها أو شارك فيها، وكان شاهدًا على قيام الحركة الدستورية العثمانية (1908)، منذ كان في إسطنبول إلى إقامته الطويلة في القاهرة، وشارك في وقائع قيام "الملكية الدستورية الفيصلية في سوريا" إلى أن قضى عليها الزحف الاستعماري الفرنسي، ولم يكن بعيدًا عن قيادة وزير الدفاع السوري يوسف العظمة، الذي قدّم دمه ودم جنوده قربانًا على مذبح الدفاع عن كرامة وطنه في ميسلون.
أفكار وقضايا
وقد سجَّل داغر على صفحات هذا الكتاب/ المذكرات انطباعاته وأفكاره عن الأحداث العربية المتلاحقة والمضطربة في منتصف القرن العشرين، فتعقّب الحوادث، كبيرها وصغيرها مع شخصياتها الفاعلة في دمشق وبغداد، والقاهرة وفلسطين، وعلى خطوط النيران بين العرب والصهيونية، وفي تنقلاته الأوروبية، فكان كما يكتب عنه خالد زيادة "واحدا من أولئك الذين تكوّنت شخصياتهم وأفكارهم من خلال متابعتهم ومشاركتهم في الحوادث التي تطوّرت خلالها العروبة من فكرة إلى ثورة إلى حكومة .. فانتمى داغر إلى الجيل الذي نذر شبابه في سبيل الفكرة العربية". وما كتبه هو عن رجال هذا الجيل، في الزمن البطولي هذا، ينطبق عليه نفسه، حين كتب "تلك النخبة الممتازة التي تولت قيادة الأمة في أعظم مرحلة من مراحل تاريخها. كانت ممتازة في كل شيء، في إخلاصها وتضحيتها وبعد نظرها .. اندمجت أشخاصهم بمبادئهم، وتجسّدت هذه المبادئ بأشخاصهم وأحزابهم" (ص 36).
لقد شكلت هذه المذكرات شاهدًا حيًا على ذلك التلاحم الروحي بين الكاتب وتطور الحركة العربية، فهو كتب بقلم يتصل مباشرة بالقلب والفكر، فالرجل عاش القضية العربية بجوارحه كلها، فرَح لأفراحها وحزن لأحزانها، ووقف حياته كلها لخدمتها، فكان من ذلك الجيل الذي رهن حياته كلها لقضية أمته، وكان على استعداد للتضحية اللازمة، بل كان يرى حياته كلها تفتقر إلى المعنى إذا لم تنغمر روحه بها. وقد راقب نتائج المؤتمر القومي العربي في باريس 1913، الدي طالب بتجديد الدولة العثمانية على أساس الشراكة العربية - التركية في ظل دستورٍ يكفل الحريات والحقوق، قائلا "لما رأى العرب ما وصلت إليه حال الدولة، وكانوا حريصين على البقية الباقية من تلك الرابطة بينهم وبين الترك، تنبهوا إلى واجبٍ عظيم، وهو وجوب اشتراك الفريقين في سياسة البلاد وتحمل تبعاتها" (ص 121).
عاش أسعد داغر منشغلًا بتلهف للعثور على بروز مركز دولاتي عربي، ليكون قاعدة للعمل القومي، مع زعامة مُلهمة تقود العرب نحو الوحدة والتقدّم
لذا، استبشر داغر بالثورة الدستورية التي قادتها "تركيا الفتاة"، على أمل قيام شراكة عربية تركية في ظل الدستور الديمقراطي، لكنك تعثر لديه هذ الحلم مع اتباع "الاتحاد والترقي" سياسة التتريك التي توَّجها جمال باشا بالدم عام 1916، فانحاز إلى الفكرة العربية بالاستقلال عن الأتراك، ورأى، من إسطنبول، كيف تحولت أغلبية النخبة العربية إلى الفكرة العربية "فالغالبية، وفي مقدمتهم الضباط والشيوخ والنواب والمفكرون من شبان العرب، أجمعوا على أن لا حياة للأمم في هذا العصر إلا على أساس القومية" (ص 101). وتوصلت هذه النخبة إلى فكرة مفادها "أن الأمة العربية في حالتها الحاضرة لا يمكن أن تستمد مكانتها في التاريخ إذا ظلت مصر بعيدة عنها". (ص 42). ولهذا لم يندم أسعد داغر، لأن نتيجة حرب العرب على الترك كانت مخيّبة، فيقول "اقترفنا أخطاء كبيرة، لكن ليس بينها قيامنا بالثورة على الترك دفاعنا عن كياننا القومي .. فالعرب كانوا مُكرهين لأن خطر الفناء كان يهددهم على الدوام"، بل يقول "ما فعله العرب في النصف الأول من هذا القرن كان معجزة قومية كبرى، قاموا بها وهم محرومون من جميع أسباب القوة، ومحاطون بالأعداء، لا صديق لهم" (ص 39). وكان يؤمن إيمانًا راسخًا بوحدة المشاعر العربية وبالأمة العربية، فكتب "لو زرت أقطارها كلها (= الأمة العربية) لسمعت كلامًا واحدًا .. مطالبهم جميعًا واحدة، وآمالهم واحدة وطريقة تعبيرهم عن هذه الأحلام واحدة" (ص 39). ويذهب إلى التأكيد "ليس في العالم أمة متحدة العواطف والمبادئ والأماني والآمال كالأمة العربية .. وكل شيء والحالة هذه مهيأ في طريق الوحدة". (ص 353).
وعاش أسعد داغر منشغلًا بتلهف للعثور على بروز مركز دولاتي عربي، ليكون قاعدة للعمل القومي، مع زعامة مُلهمة تقود العرب نحو الوحدة والتقدّم، ولقد تنقلت خياراته بين عدد من الزعامات، فعوَّل، في البداية، على الضابط عزيز علي (المصري)، ثم نقل هذا الخيار إلى شخصية الملك فيصل، الملك الدستوري للدولة السورية، فعند انتقاله إلى دمشق عام 1918 -1920، وجد داغر دالته في الملك فيصل، فرأى فيه الزعيم الكبير الذي بإمكانه أن يرتكز على سورية التي تحولت بعد "المؤتمر السوري" إلى الملكية الدستورية، واستقطبت دمشق حينها القيادات العربية البارزة، من العراق ولبنان وفلسطين، وأتى إليها المصريون المنفيون من إسطنبول، فتشكل "المجلس الوطني السوري" من خيرة رجال المشرق العربي، بمن فيهم رشيد رضا تلميذ محمد عبده ورياض الصلح، يجمعهم الحلم الكبير في النهضة والوحدة، فرأى داغر كيف تحولت دمشق إلى جاذب للوطنيين العرب، فيقول "شهدت عظمة الشعب السوري وصدق وطنيته ... وقد ضمّت دمشق في تلك الأشهر الخالدة من تاريخ سوريا رجالات الأمة العربية وخيرة شبانها ومفكريها من جميع الأقطار، وأصبحت كعبة لكل وطني عربي .. فكانت دمشق في حياتها الاستقلالية دماغ الأمة العربية وقلبها النابض، ومصدر النور" (ص 202 و204). وفي قلب هذه المشهد، احتل الملك فيصل موقع القلب المحرّك، فيتساءل "فأي عملٍ تعجز الأمة العربية عنه لو ظهر حينئذ في دمشق رجلٌ عظيم؟" (ص 212). وعندما انتقل فيصل إلى العراق، وبُويع من الأعيان والنخبة العراقية، ظل أسعد داغر متعلقًا بتعاظم دور فيصل العربي، وقد روى "تحدّثت إلى الملك فيصل في هذا الموضوع، كنت أقول له إن العراق مهام النهضة العربية بما لديه من إمكانيات غير متوفرة لبعض الأقطار العربية الأخرى، وإن إعداده للقيام بهذه المهمة يتوقف على التوفيق بين قادته، وجعلهم كتلة واحدة تسير خلف جلالتكم" (ص 355)، ورأى في وفاة الملك فيصل نقطة تحوّل في الحركة العربية، جعلته يبحث من جديد عن زعامة عربية تكمل المشوار. وعبر عن ذلك بالقول "كانت وفاة هذا العاهل العظيم، في عام 1933، نقطة تحوّل في تاريخ القضية العربية، فبدأت الأنظار تنصرف عن العراق باحثة عن أمل جديد" (ص 354).
ينتمي أسعد داغر إلى زمن "البدايات" الخارقة التي تحمل معها الوعود والأحلام الكبيرة مع العزائم الشديدة
وكان قد غادر دمشق واستقرّ في مصر، واستمرّ في خدمة الفكرة العربية، فدعم تجربة طلبة جامعيين في تأسيس "جمعية الوحدة العربية" في عام 1936، فاحتضنها بمشاركة عدد من المثقفين والمفكرين العرب، مصريين وغير مصريين، فجمعت عضويتها عبد الستار الباسل وعبد الرحمن عزام ومنصور فهمي ومحمد علي علوبة، فاتفقوا جميعًا على مبدأ "لا عروبة بدون مصر، ولا وحدة ولا استقلال إلا بعد دخولها معهم" (ص 431). وبقيت عيونه شاخصةً تبحث، من دون كلل، عن الزعيم الملهم، فعثر عليه، أخيرًا، في جمال عبد الناصر ومصر، ثم الجمهورية العربية المتحدة. حين تعرف عليه مباشرة، قال "أصبحت أرى فيه الزعيم الذي اختاره الله لإنقاذ الأمة العربية .. وخرجت من ذلك الاجتماع وأنا أكثر ثقة في المستقبل" (ص 437).
في الختام
ينتمي أسعد داغر إلى زمن "البدايات" الخارقة التي تحمل معها الوعود والأحلام الكبيرة مع العزائم الشديدة. وعندما واجهته العثرات، علّق آماله على ظهور "الزعيم الخارق"، والدولة القائدة. ولم يكن وحده بين القوميين من حمل ذلك، شاركه هذا الحلم عزة دروزة، إلى أن اكتمل هذا الحلم بنظرية نديم البيطار "الإقليم القاعدة"، وهي نظرية فُصِّلت على مقاس عبد الناصر، قائد الجمهورية العربية المتحدة "المغدورة". وقد عاش داغر ليشهد اللحظة العربية الاستثنائية (الوحدة السورية المصرية)، وتأملت عيناه مشهد الاحتفال بقيامها، قبل أن يوارى الثرى، آمنًا مطمئنًا عام 1958، بعد أن قضى حياته حالمًا بالوحدة وعاملًا من أجلها، وقد جنّبه الموت رؤية النكبات والهزائم تترى.