مركزية العرب في الكباش الأميركي – الصيني
لم تفلح توسّلات الرئيس الأفغاني أشرف غني، خلال زيارته واشنطن، في ثني الولايات المتحدة عن قرارها الانسحاب كليا من أفغانستان، بحلول 11 من سبتمبر/ أيلول 2021، الذكرى العشرين للهجمات التي تعرّضت لها الولايات المتحدة، وغيرت وجه السياسة الدولية. يخشى غني أن يؤدي خروج الأميركيين إلى تكرار سيناريو 1992، عندما اجتاحت فصائل المجاهدين كابول، بعد الانسحاب السوفييتي، وأسقطت حكومة محمد نجيب الله، وأعدمته. لكن واشنطن عقدت العزم، على ما يبدو، على انهاء تورّطها في العالم الإسلامي، والتركيز على إنقاذ موقعها المهدّد، بوصفها دولة عظمى وحيدة في العالم، بسببه.
قبل هجمات "11 سبتمبر"، وعلى الرغم من كل السجالات التي ثارت في الأكاديميا ووسائل الإعلام حول "صراع الحضارات"، وما سمي حينها "التهديد الأخضر" (كناية عن الإسلام)، لم تكن دوائر السياسة الأميركية ترى مع ذلك في العالم الإسلامي عدوًا، خصوصا أن أكبر دوله كانت حليفة لها، من السعودية إلى تركيا ومصر وباكستان وإندونيسيا، كانت إيران فقط تغرّد خارج السرب. التهديد الرئيس الذي تراءى لصانع القرار الأميركي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي كان الصين. لكن هجمات سبتمبر غيّرت الأولويات، فانتقل التركيز الأميركي من مواجهة تهديد استراتيجي، بحجم الصين، إلى مواجهة ظاهرة غير محدّدة، وعسيرة على التعريف، تسمّى "الإرهاب"، تحتاج مقاربة سياسية واقتصادية وأمنية لمواجهتها، لا جيوشا جرّارة.
في كل الأحوال، غرقت الولايات المتحدة في العالم الإسلامي، وأغرقته معها في الفوضى، فيما حصلت الصين وإيران على هدايا لم يكن تصوّرها ممكنا حتى في الخيال. أسقطت واشنطن نظامي صدام وطالبان، فانفلش النفوذ الإيراني بين جبال هندوكوش والبحر المتوسط. أما الصين فقد حصلت على فترة سماح مدتها عقدان، انصرفت خلالها إلى بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية، فيما واشنطن مشغولة عنها بمعارك دونكيشوتية، كانت تسخّر خلالها أقمارها الصناعية لرصد خيمة في صحراء حضرموت وتدميرها، أو إرسال قاذفة بي 52 الاستراتيجية العملاقة لضرب ما يتبين لاحقا أنه عرسٌ أو جنازةٌ في أفغانستان.
قبل عشر سنوات، أخذ يتضح لجزء من النخب السياسية والأمنية الأميركية مقدار الخطأ الذي ارتكبته بتورّطها عسكريا في العالم الإسلامي، وانصرافها عن متابعة الصين. من هنا، جاءت استراتيجية إدارة أوباما المسمّاة "Pivot to Asia" أو التمحور حول آسيا، ورؤية هيلاري كلينتون "لقرن أميركا الباسفيكي"، وما ترتب عليها من انسحاب من العراق عام 2011، ومحاولات لم تنجح للانسحاب من أفغانستان بحلول عام 2014. لكن الأمر استغرق عشر سنوات أخرى، حتى يتشكّل إجماع فوق حزبي حول هذا الأمر، وداخل المؤسسة العسكرية الأميركية التي عارضت فكرة الانسحاب من العراق، وكذلك من أفغانستان. هذا التوجّه مهم، لكن واشنطن تجازف هنا بارتكاب خطأ جديد، وهي تحاول تصحيح خطأ سابق، إذا هي سمحت لخصومها بملء الفراغ الذي ينشأ عن إعادة تموضعها.
في عام 1993، حذّر الأكاديمي الأميركي صمويل هنتنغتون (1927 - 2008) من نشوء تحالف صيني - إسلامي. ورأى أن التكنولوجيا الصينية مع مصادر الطاقة التي يملكها العالم الإسلامي تمثل التهديد الأكبر لمكانة الغرب العالمية. الاتفاق الاستراتيجي الصيني الإيراني الأخير يمثل جوهر التحدّي الذي حذّر منه هنتنغتون، حيث تعهّدت الصين، بموجب الاتفاق، بضخّ 400 مليار دولار على شكل استثمارات في إيران، في مقابل حصولها على كل نفط هذه الأخيرة ربع قرن. إذا تبلور التحالف الصيني - الإيراني، سوف تصبح فرص واشنطن في احتواء صعود الصين محدودة، إن لم نقل معدومة. فالصين لا يعوزها إلا الطاقة لتأمين استمرار صعودها وإزاحة واشنطن عن مكانتها الدولية. هناك فرصة وحيدة أمام أميركا لاحتواء التحالف الصيني - الإيراني الناشئ، وهو كسب العرب (الشعوب العربية) إلى جانبها، عبر مساعدتهم في إعادة بناء دولهم التي أسهمت واشنطن نفسها في تهشيمها، من أجل التصدّي للنهج الشمولي الصيني المتحالف مع إيران. هذا الالتزام، وليس الهروب من المنطقة، هو ما يمكن أن يعوّض واشنطن عن العقدين الضائعين في مواجهة الصين. سلوك واشنطن الحالي لا يوحي أنها واعية لأهمية علاقاتها العربية، على الرغم من أنها تمثل أملها الوحيد في احتواء الصين. وتدرك واشنطن، بالطبع، أنها لم تتمكّن من هزيمة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة إلا بمساعدة عربية، سواء في أفغانستان أو في سوق الطاقة العالمية.