مزيد من العزلة... مزيد من الحرب في السودان
تتّسع اتهامات الحكومة العسكرية في السودان للعالم بالتآمر عليها. وصف وزير الخارجية، المُكلّف الجديد، الحرب السودانية بأنّها "حرب كونية ضدّ السودان"، بينما كان نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار أكثر تواضعاً، فاكتفى بالقول إنّ "العالم لا يريد للسودان أن يكون دولة قوية وذات سيادة". هذا ليس خطاباً جديداً في السياسة السودانية، إنّه خطاب نظام الحركة الإسلامية في السودان ذاته 30 عاماً. خطاب بدأً في صباح 30 يونيو/ حزيران 1989، واستمرّ في إشاعة العداء مع العالم والقلاقل في المنطقة، مع شكوى دائمة من مؤامرةٍ عالميةٍ ضدّه.
تحجز الولايات المتّحدة موقعها الدائم على قائمة الاتّهام، وقد وصف نائب رئيس مجلس السيادة الحرب بأنّها "زُرعت ونَبَعَتْ في أرض أميركية". لبريطانيا وفرنسا موقعهما، طبعاً، في الاتهامات. لا يمكنك معاداة العالم من دون وضع هذه الدول في قائمة الأعداء. هاجمت وزارة الخارجية بريطانيا، واتّهمتها بدعم المليشيا، في مجلس الأمن، واتهم الفريق ياسر العطا، مساعد قائد الجيش، فرنسا بالسعي إلى توطين "عرب أفريقيا" في السودان. لكنّ مالك عقار أضاف للدولتَين عموم الاتحاد الأوروبي في اتهاماته لمُشعلي الحرب. مع هؤلاء تأتي الإمارات وكينيا وتشاد، ومعهم الاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد). وعلى رأس القائمة، بعثة الأمم المتّحدة لدعم الانتقال في السودان (يونيتامس)، التي اتهمها الجيش السوداني بتحريض قائد قوات الدعم السريع على التمرّد ضدّ حليفه القديم قائد الجيش، عبد الفتّاح البرهان. بل اتهم أحد الدبلوماسيين السابقين، وأحد القيادات الإسلامية، مبعوث الأمين العام إلى السودان بالمشاركة الشخصية في اختطاف قوات الدعم السريع لأحد القيادات الإسلامية، وذكر أنّ "القيادة في الخرطوم" أبلغتهم بأنّ مبعوث الأمين العام للأمم المتّحدة فولكر بيرتس ترجم بنفسه ونشر اعترافات تحت الضغط أدلى بها القيادي المختطف (!)
كلّ الدنيا في خريطة الجيش تبدو محيطاً معادياً. والكون والعالم أجمع يتآمرون على الدولة السودانية (!)، حتى مصر، التي كانت تبدو مُقرّبة من الجيش، واجهتها الخارجية السودانية بموقفٍ عجيب من دعوتها إلى مُؤتمر جامع للسياسيين السودانيين. موقف قد يُدخل مصر في قائمة الأعداء قريباً، سيّما مع اعتراضها المُتوقّع على منح روسيا قاعدة في البحر الأحمر.
حتى هذه اللحظة، ليس للحكومة العسكرية في السودان حليف واضح إلا روسيا، فهي التي دعمت شرعية الحكومة العسكرية، وهو أمر يسعى إيله قادة الجيش منذ انقلابهم المشترك مع قائد "الدعم السريع" في أكتوبر/ تشرين الأول 2021. فمنذ الانقلاب على الحكومة المدنية الانتقالية ظلّت الحكومة العسكرية تبحث عن الشرعية والاعتراف الدولي. وتبدو حرب 15 إبريل فرصةً مناسبةً لها للحصول على هذا الاعتراف. كما أعلن مساعد قائد الجيش أنّ روسيا ستمدّهم بالسلاح، في مقابل منحها نقطة ملاحية على البحر الأحمر. ومع تطبيع العلاقات مرّة أخرى مع إيران، وعودة العلاقات الدبلوماسية، يبدو واضحاً أنّ النظام العسكري اختار معسكره بوضوح، وهو معسكر جرّب نظام عمر البشير التحالف معه، حتى ذهب متوسّلاً إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمام كاميرات الإعلام، طالباً منه "الحماية من أميركا"، وهو ما لم يحصل عليه. وسبق لنظام البشير أن احتمى بالحليف الإيراني حتى وقفت البوارج الإيرانية في مدينة بورتسودان، وأعلنت حمايتها للسواحل السودانية. رغم ذلك، قطع نظام البشير العلاقات مع إيران، وصادر سفارتها، وأعلن العداء تجاهها، عندما لاحت له فرصة دعم مادّي خليجي.
قد يُكرّر النظام العسكري المأزق ذاته، الذي وضع نظام البشير فيه السودان. ويدخل البلاد (أو ما يتبقّى منها بعد هذه الحرب)، مرّة أخرى، في عزلة ومواجهات مع المجتمع الدولي، لكن هذه المرّة في ظروف أسوأ. وما يبدو أنّ معاقبة الغرب بالاتجاه شرقاً للتحالف مع القيصر بوتين قد يتحوّل إلى مصيدة. فروسيا، التي تنزف مالاً وسلاحاً وجنوداً في أوكرانيا، قد تتورّط في حرب السودان أكثر وأكثر. وهي عملية استنزافٍ سيسعد الغرب برؤيتها تحدث، وهو ما يعني أنّ اتجاه الجيش إلى موسكو لن يُشعل فقط العداء الدبلوماسي مع العالم أو يهدّد بنظام شمولي عسكري مستقرّ، بدعم وحمايةٍ روسيّين، بل قد يطيل أمد الحرب بتوريط روسيا في حرب استنزافٍ إضافية.