مستشفيات لتعليم الصحافة
خصّص معهد الجزيرة للإعلام العدد الـ 16 من مجلة "الصحافة"، وعنوان غلافه "كليات الصحافة.. مائة عام من العزلة"، لموضوعات تخصّ تجربة تدريس الصحافة في العالم العربي. لخصت محتويات العدد (صدر الشتاء الماضي) أبرز المشكلات التي يعاني منها تعليم الصحافة في الجامعات العربية، من قبيل قلة الأساتذة المهنيين، وطــرق التدريــس وأدواتــه وانعكاســها علــى معاييــر اختيــار أعضــاء هيئــات التدريــس، وتوسّع الفجــوة المعرفية بيــن بعــض المدرســين والطلبــة. وتناولت موضوعات المجلة ضرورة إعادة تأهيل المناهج والكفاءات التدريسية في المؤسسات الأكاديمية، مع ضرورة توفير التدريب المستمر للأكاديميين، والتطوير المستمر للمناهج.
بالنظر إلى تاريخ الصحافة، بوصفها ممارسة مهنية بدأت تتشكل في القرنين السابع والثامن عشر، وبرنامجاً أكاديمياً ظهر في الجامعات والمعاهد لاحقاً، يُلاحظ الحضور الدائم للسؤال المتعلق بـ"كيف نعلّم الصحافة"، إذ لمس المحرّرون، منذ وقت مبكّر، أن التعقيد المتزايد للعمل الإخباري وتشغيل المؤسسات الإعلامية يتطلب قدراً كبيراً من التدريب المتخصص. وقد ارتفعت وتيرة تكرار السؤال وإلحاحية الإجابة عنه عملياً، خلال السنوات الأخيرة، مع الطفرات السريعة التي شهدها المجال، ولا سيما ما سبّبه ظهور الصحافة الرقمية الشبكية على مستويي الممارسة المهنية والحاجة لتطوير مناهج تعليم. وبالتوازي مع ذلك، استمر البحث عن علاقة "مثالية" متوازنة بين التكوين الأكاديمي النظري وضرورات التدريب المهني في تعليم الصحافة، ذلك أن توافر الأول شرط إجباري في المؤسسات الأكاديمية، فيما لا يمكن تجاهل الثاني كضرورة لتمكين الخريجين من الالتحاق بسوق العمل، وقد كسبوا المهارات المطلوبة والمُنافِسة.
وفي سياق البحث عن هذا التوازن بين ما هو أكاديمي وعملي في تعليم الصحافة، مالت المبادئ الواردة في وثائق منظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة (يونسكو)، والخاصة بالتعليم الجامعي لتخصص الصحافة، إلى أهمية أن يكون معلمو الصحافة مزيجاً من الأكاديميين والممارسين؛ ومن المهم أن يتمتع الممارسون بخبرات عملية كافية كصحافيين. وقد شكلت هذه المبادئ توليفاً للمحتوى الموضوعي لتعليم الصحافة، وفقاً لفلسفة المجلس العالمي لتعليم الصحافة (WJEC) التي تَعتبر الصحافة ممارسة اجتماعية ذات قاعدة معارف ومهارات متعدّدة التخصصات بطبيعتها.
يستعرض محرّرا كتاب "تعليم الصحافة العالمية في القرن الحادي والعشرين .. التحديات والابتكارات"، Godman وSteyn، أبرز التحدّيات التي تواجه تعليم الصحافة في راهنٍ تهيمن عليه الاضطرابات الاقتصادية والسياسية والتقنية والثقافية. وهي التحدّيات نفسها التي أوردها تقرير لمنظمة مراسلون بلا حدود، جاء فيه أن السنوات العشر المقبلة ستكون عقداً حاسماً لحرية الصحافة، بسبب تراكم الأزمات على باب صاحبة الجلالة، سواء تعلق الأمر بأزمات جيوسياسية (عدائية النماذج الاستبدادية وتغول السياسات القمعية) أو بأزمة ثقة (التشكيك في مصداقية وسائل الإعلام، والشعور بالكراهية تجاهها) أو بأزمة اقتصادية (شحّ موارد المؤسسات الإعلامية المالية). وبعد استعراض تداعيات تفشّي الشعبوية في أنحاء العالم، وما رافق ذلك من هجوم على الصحافة، ومحاولات تقويض سلطتها وتشويه سمعتها في زمن شيوع "الأخبار الزائفة" و"الحقائق البديلة"، يسأل المحرّران: ما الذي يمكن أن يفعله الأكاديميون والصحافيون للرد على مثل هذه الاتجاهات غير الديمقراطية؟
في سياق البحث عن المناهج الأفضل لتعليم الصحافة، يقترح توماس باترسون، الأستاذ في كلية هارفارد كينيدي، في مقال نُشر في صحيفة هارفارد جازيت، أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ صناعة الصحافة إعادة تشكيل مناهج تعليم الصحافة بالكامل. واقترح نموذجاً أطلق عليه اسم "نموذج المستشفى التعليمي"، يعتمد على فكرة أن الصحافة يجب أن تعمل كمهنة مماثلة لمهنة الطب، وكما تُدرب المستشفيات التعليمية طلاب الطب بالسماح لهم بعلاج المرضى وإجراء البحوث، يجب أن تدرّب كليات الصحافة الطلاب بالسماح لهم بإنتاج محتويات حقيقية، وبذلك تصبح برامج الصحافة "مؤسساتٍ راسخة"، ينتج طلابها صحافة للجمهور، تحت إشراف مدرّس محرّر محترف، بدلاً من تبديد العمل في الفصول الدراسية النظرية. وبذلك، تصبح الصحافة التي ينتجونها أكثر حرفيةً وأكثر ارتباطاً بالمجتمع.