مصر بين معبرَين
بين مصر وغزّة معبرُ رفح، المفروض أنّه خاضع لسلطة مصر وسيادتها من الجانب المصري، وخاضع لسلطات غزّة من الجانب الفلسطيني، لكنّه واقعياً، في هذه اللحظة، خاضع للاحتلال الصهيوني، الذي اقتحمه بالآليات العسكرية، ورفع أعلامه عليه، ومنع حركة مرور الأفراد من الجانبَين.
بين مصر والاحتلال الصهيوني معبر طابا، الذي اُفتتح في 26 إبريل/ نيسان 1982، ويطلق عليه الصهاينة من جهة حدود فلسطين المُحتلّة اسم "معبر مناحيم بيغين"، وهو منفذ مرور السيّاح الصهاينة إلى مصر، التي تبقيه مفتوحًا على مدار 24 ساعة، يومياً، وتحصّل رسوم عبور رمزية من كلّ صهيوني، وتوفّر له كلّ ما يحتاجه من خدمات.
معبر رفح منتهك ومغلق معظم الوقت في وجه الأشقاء الفلسطينيين، علماً أنّه المنفذ الوحيد لسكّان غزّة إلى العالم الخارجي، ومن يُسمح له بالمرور منهم، في أوقات فتحه القصيرة، يدفع مبالغ ضخمة لا تقلّ عن خمسة آلاف دولار، وقد تصل إلى عشرة آلاف دولار، في مثل هذه الظروف شديدة الصعوبة التي يعيشها فلسطينيو غزّة منذ تسعة أشهر.
في عيد الأضحى المبارك، هذا العام، لم ينجح فلسطيني واحد من غزّة في العبور من بوابة رفح لأداء فريضة الحجّ، فيما نجح آلاف الصهاينة في دخول الأراضي المصرية عبر معبر طابا لقضاء إجازات رخيصة في سيناء. وبحسب المنشور في"العربي الجديد"، أفاد مصدر حكومي مصري في محافظة جنوب سيناء بأنّ عشرات الآلاف من الإسرائيليين جاءوا إلى معبر طابا البرّي للدخول إلى سيناء، لقضاء الإجازة فيها. وأنّ ارتفاع الحرارة لم يكن عائقاً أمام توافد الإسرائيليين، فيما عملت الطواقم المصرية في المعبر على تسهيل إجراءات التفتيش الأمني لتخفيف الزحام.
بين معبرَي رفح المصري الفلسطيني ومعبر طابا لا تزيد المسافة عن ساعتين بالسيّارة، لكنّ المسافة بين مصر معبر رفح ومصر معبر طابا عقود من التيه الحضاري والانهيار في الوزن السياسي، جعلتها لا تجرؤ على اتخاذ خطوة عملية مُحترمة لإزالة الانتهاكات الصهيونية لسيادتها على معبر رفح، وتتعنّت بمنتهى القسوة مع المواطن الفلسطيني، الذي يحاول المرور للعلاج أو للدراسة، فيما تستبسل في تأمين معبر طابا وإبقائه مفتوحاً طوال الوقت، وتوفّر كلّ سبل الراحة للسائح الصهيوني.
منذ اقتحم الجنود الإسرائيليون معبر رفح المصري الفلسطيني وسيطروا عليه، وأغلقوه في وجه المواطنين، لم يصدُر عن القاهرة أيّ ردّة فعل سوى الأنين الزائف من السلوك الإسرائيلي في تصريحات صحافية مرتعشة، من دون أيّ إجراء عملي رادع للعربدة الصهيونية، رغم توفّر خياراتٍ عديدةٍ للردّ، ليس من بينها التورّط في حرب مع الصهاينة كما ينعق ببغاوات التطبيع في الإعلام المُتصهين، إذ كان من السهل الردّ على الاحتلال بالمثل، والإعلان عن إغلاق معبر طابا من الجانب المصري، نظراً إلى التوتّر المتصاعد في الأوساط الشعبية المصرية، وتنامي مشاعر الغضب والعداء للاحتلال.
كان يمكن للسلطات المصرية أن تُظهر اعتزازاً بالكرامة الوطنية، وتأكيداًً على سيادتها على حدودها، بوضع معبر طابا في مقابل معبر رفح، بحيث يكون انسحاب قوات الاحتلال من المعبر وإعادة تشغيله وفتحه أمام الفلسطينيين لدخول مصر شرطاً لتشغيل معبر طابا لاستقبال السيّاح الصهاينة، غير أنّها لم تفعل، ولن تفعل، لأنّها أثبتت للكيان الصهيوني أنّها باتت مأمونة الجانب، ولا يصدُر عنها خطر أو تهديد يمكن أن يكبح الغطرسة الإسرائيلية. كان بمقدورها أن تحتفظ ببعض الكرامة وتردّ الإهانات المتلاحقة، وجديدها أخيرا مقايضتها من الصهاينة بشحنات الغاز الطبيعي، إن في مستوى فواتير الدفع مستحقّة السداد على الحكومة المصرية، أو في مستوى منع وصول الكمّيات المتّفق عليها، بحجّة ظروف العدوان على غزّة، وهو ما جعل المدن والقرى المصرية تغرق في الظلام نتيجة قطع التيار الكهربائي، لعدم القدرة على تشغيل محطّات الكهرباء بالشكل المطلوب.
كانت تستطيع أن يكون فعلها منسجماً مع ما تعلنه من شعارات وخطب رنّانة، لكنّها اختارت أن تفعل عكس ما تقول، وأن تدّعي عكس ما تفعل... للأسف!