مصر والاتفاق السعودي الإيراني ... مواقف حذرة
أعلنت مصر موقفها من اتفاق استئناف العلاقات السعودية الإيرانية، مرّة في بيان وزارة الخارجية، وجاء مقتضبا وعموميا، يفيد بمتابعة القاهرة الاتفاق، وتأمل أن يخفّف حدّة التوتر، ويعزّز الاستقرار ويحافظ على الأمن القومي العربي، بينما جاء الموقف الثاني عبر تصريح مؤسّسة الرئاسة بعد يوم من بيان الخارجية، وكأنه استدراكٌ يحمل موقفا أكثر تفصيلا وربما وضوحا، ويشير إلى أهمية الاتفاق، والتطلع إلى دور إيجابي يحدثه، إزاء سياسات إيران الإقليمية والدولية، كما يثمّن توجّه السعودية ودورها الإقليمي.
ورغم الاختلاف في لهجة البيانين، إلا أن الحذر حاضر في كليهما، كما رفض مشروعات إيرانية في المنطقة، وهو ما جاء تفصيلا في بيانٍ سابق للجنة المتابعة والتشاور المصري السعودي، ومعبّرا عن رفض التدخل في الشؤون العربية، ومحاولات المساس بأمن الملاحة والأضرار بالتجارة الدولية، وهذا يعبر عن مصالح مشتركة للقاهرة والرياض، يرتبط، فى جانب منه، بأمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وإن كانت استجابة القاهرة الرسمية ترحّب باستئناف العلاقات، إلا أنها حذرة، ولسان حالها ننتظر مدى التزام طهران، خصوصا وأنها ليست الأزمة الأولى من قطع العلاقات مع الدول العربية وخفض مستواها، وقد عادت تدريجيا خلال عامين من مشاورات طهران والرياض. وعموما، ترجع مخاوف القاهرة إلى أسبابٍ ترتبط بالسياقات المحلية وارتباطات مصر في الساحتين، الدولية والإقليمية، غير مشاغل اقتصادية وأمنية، إضافة إلى أبعاد تاريخية، وكلها في حالة تشابك وضمن سياقاتٍ تحدّد موقف مصر من الاتفاق تبرز عدة نقاط.
أولا: لا تريد مصر الغياب عن المشهد الإقليمي، لكنها تتحفّظ على العلاقة مع طهران حاليا، وظلت منخفضة التمثيل منذ الثورة الإسلامية 1979 لتعارض التوجّهات، وكانت الردود على رسائل تستهدف رفع مستوى العلاقات بطيئة ومتردّدة منذ العقد الأخير من حكم حسني مبارك، وظلت بالوتيرة نفسها خلال عامين، تعيد فيهما دول خليجية العلاقات مع إيران تدريجيا، رغم تعدّد ملفات الخلاف، وتبقى مصر على اتصال مع طهران، من خلال آلية التشاور الثلاثي مع الأردن والعراق.
لا تحتمل القاهرة أن يصبح أمن البحر الأحمر مهدّدا ولا تثق في نيات طهران وتنفيذ تعهداتها بوقف نقل السلاح
ثانيا: لا تريد القاهرة انخراط قوى جديدة في المنطقة، قد يُحدِث وجودُها تغيراتٍ في معادلات القوة، تفقدها مكاسب أو تنال من مصالحها مع شركائها، وتظلّ مسألة التنافس الإقليمي في حالتها القديمة قائمة، رغم أن ثلاث قوى في حالة أزمة تتشابه بعض جوانبها (تركيا وإيران ومصر) كما لا تريد القاهرة تدخّل أنقرة وطهران في قضايا المنطقة، حتى مع الاعتبار لتشاور قائم لاستعادة العلاقات مع تركيا، إلا أن ذلك جاء ضرورةً ترتبط بملفي غاز شرق المتوسط وليبيا عاملين هامين على مستويين، اقتصادي وأمني.
ثالثا: للقاهرة علاقات شراكة مع الولايات المتحدة بما فيها مهام أمنية، وتتولّى البحرية المصرية حاليا قيادة فرقة العمل المشتركة 153، المعنيّة بتشجيع التعاون الإقليمي الأمني (ضمنه منطقة البحر الأحمر وباب المندب) وتركّز مع الشركاء على مكافحة التهريب والقرصنة. والقاهرة، في هذا الملف، مدفوعةٌ أولا بحماية مصالحها الذاتية في اعتبار أول، وأن شكل وجودها بحريا، والذي تعزّز بإنشاء القواعد العسكرية، قوة ردع يحد من عمليات التهريب، والتي نشطت منذ 2016، وأعلنت أخيرا القيادة المركزية، وبالتزامن مع مفاوضات إيرانية سعودية لاستئناف العلاقات، عن التصدّي لناقلات بحريةٍ تحمل أسلحة روسية وصينية الصنع، خفيفة وأخرى ثقيلة وصواريخ متوسّطة المدى، وهذا يظهر أن المهدّدات البحرية ما زالت قائمة، كما قصد الإعلان التحذير من أنشطة التهريب التي تتورّط فيها إيران، ودعمها الحوثيين في اليمن، والذين نفذوا خلال عامي 2018-2019 عشرات الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة، على منشآت النفط في السعودية والإمارات، ما هدّد حركة الملاحة والتجارة الدولية، وتضرّرت القاهرة، بحكم أن قناة السويس معبر أساسي للبترول إلى أوروبا، لا تحتمل القاهرة أن يصبح أمن البحر الأحمر مهدّدا ولا تثق في نيات طهران وتنفيذ تعهداتها بوقف نقل السلاح. لذا تتحفظ على التسرع في استعادة العلاقة مع إيران، كما لم تنس القاهرة درس تفكيك التحالف الرباعي وحصار قطر، والذي انخرطت خلاله مع السعودية والإمارات والبحرين، لتعود الأطراف الثلاثة مع قمّة العلا إلى جانب قطر وتخرُج القاهرة منفردة.
يمكن فهم موقف القاهرة من الاتفاق السعودي الإيراني من دون الالتفات إلى واقع محلي تلعب فيه الأزمة الاقتصادية دورا في تشكيل علاقاتها وسياساتها الخارجية
رابعا: رغم التنسيق السعودي المصري في عدّة ملفات، إلا أن هناك تنافسا قديما متجدّدا، ولم تكن الخلافات في الشهور الماضية تقف خلفها أزمة اقتصادية وحسب، تطالب فيها القاهرة بضخّ استثمارات لمعالجة شح الاحتياطي النقدي، فتعود الرياض إلى جرد حسابٍ بشأن مساعدات قدّمت لدعم النظام، كاستثمار سياسي بعد إزاحة الإخوان المسلمين، ورغم الدعم السعودي السابق وما تنتظره القاهرة من تسريع صفقات استثمارية تساهم في معالجة نقص شديد في الاحتياطي النقدي وتراكم الديون، ما زال هناك تباين في المواقف بشأن الملفين، السوري واليمني، وكانت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي أخيرا الرياض ليلا (دعوة إلى السحور) تطرح ملفات تعاون وتعالج تباين المواقف، وأيضا ما استجدّ من تطوراتٍ بعد الاتفاق السعودي الإيراني. وجاءت الزيارة في سياق طلب القاهرة سرعة ضخّ استثمارات جديدة، ضمن حزمة تمويل إضافية 14 مليار دولار حسب اتفاق صندوق النقد الدولي، وهو ما يفسّر رسائل طمأنينة أرسلها النظام عن تراجع أزمة الدولار مستقبلا.
وجاء الاتفاق السعودي الإيراني، في ظل سعي الرياض زيادة نفوذها وقيادة المنطقة، وتستعد لذلك اقتصاديا وأمنيا، فتضع استراتيجية لتطوير القدرات العسكرية (ضمنها توطين 50% من الإنفاق العسكري)، وتوسيع وجودها في البحر الأحمر بشكل خاص، وهي تستعين بالخبرات الأميركية وتجري أيضا صفقات ضخمة مع واشنطن، بما يتعارض مع توقّعات بتوتر العلاقات، كما تسعى الرياض إلى بناء مشروعها النووي، وإن كانت واشنطن متردّدة في دعم المشروع، فإن الرياض توثق علاقتها مع باكستان، وتدعمها (تدرس زيادة استثماراتها إلى 10 مليارات دولار، ورفع حجم الودائع) خلال مشاورات الاقتراض من صندوق النقد الدولي، هذا في وقتٍ تبدو فيه استجابة الرياض مع القاهرة بطيئة. ولذا لا يمكن فهم موقف القاهرة من الاتفاق السعودي الإيراني من دون الالتفات إلى واقع محلي تلعب فيه الأزمة الاقتصادية دورا في تشكيل علاقاتها وسياساتها الخارجية، هذا بجانب علاقة القاهرة بواشنطن، والتي ترى أن الاتفاق يمثل جبهة جديدة في الشرق الأوسط ضمن صراع أميركي روسي صيني، وذلك كله يجعل التقارب المصري الإيراني صعبا.
لم يُسمح منذ 40 عاما بوجود إيراني شيعي في القاهرة، باستثناء فترة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، حيث زارت وفودٌ محدودة أسوان والأقصر
داخليا، لا يعدّ ملف العلاقات مع إيران محل اهتمام على المستوى الشعبي، كما لا ينظر إليها كمصدر تهديد حسب بعض استطلاعات الرأي، ذلك قياسا بدول أخرى، يمكن قراءة ذلك في المؤشّر العربي 2022، حيث صنفت إيران مهدّدا للاستقرار بدرجة مرتفعة في أغلب دول الخليج، ما يقارب خمس السعوديين والكويتيين يعتبرونها مصدر خطر، بينما ما يقارب النصف لدى المستجيبين للاستطلاع في العراق (44%) يعتبرونها مهدّدا للاستقرار وأمن المنطقة. وبالنسبة للنخب المصرية، شجّع الاتفاق أصواتا قومية وقريبة من النظام ومؤيدة له في أغلبها، على الحديث عن ضرورة تقارب مصري إيراني، وإن كان هذا الميل والنصائح إذا أردنا توصيفا دقيقا، ليسا مؤثرين في السياسة الخارجية (السياسة عموما) لأسبابٍ عدة، ويستخدمها النظام، بحكم موقعها مؤيدة للحكم، وجاءت منطلقات هؤلاء ممزوجةً بتشجيع الحوار مع نظام بشار الأسد (قد يشارك في القمّة العربية في الرياض الشهر المقبل)، بالتزامن أيضا مع الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية، مدخلا لدبلوماسية الكوارث، وبحكم رؤية تميل، في أغلبها، إلى مناصرة نظم الاستبداد ومساندتها. ويسوّق هؤلاء التقارب مع دمشق وطهران بوصفه ضرورة، ولا يغيب عن هذا السياق ترحيب بزيارتين متبادلتين لوزيري الخارجية المصري إلى دمشق والسوري إلى القاهرة، وبيانات تدعو إلى عودة سورية إلى جامعة الدول العربية.
وبخصوص إيران، لا تطورات رسمية جديدة، ما عدا رسائل ضمنية، خلال مؤتمر وزير السياحة المصري، والذي أعلن عن تسهيلات لحصول الإيرانيين على تأشيرة دخول إلى مطارات سيناء، في خطوة أولى وتجريبية، ضمن خطة زيادة عوائد السياحة، لكن تاريخيا عدد الزائرين الإيرانيين لمصر محدود، ولا يمثل حصّة في المستهدف (15 مليونا سنويا) ما يعني توظيف المؤتمر سياسيا، كما عملية ترميم مساجد ومقامات آل البيت ولقاءات مع طائفة البهرة. ومع ذلك لم يُسمح منذ 40 عاما بوجود إيراني شيعي في القاهرة، باستثناء فترة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، حيث زارت وفودٌ محدودة أسوان والأقصر، بعد اتفاقية التعاون السياحي عام 2013، وهو عام زيارة الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد، القاهرة لحضور القمة الإسلامية، وهو حدث نادر، بجانب زيارة رئيس البرلمان الإيراني في 2009، أشار فيها إلى رغبة بلاده بتطوير العلاقات مع القاهرة، مستندا على مرتكز ثقافي، ومردّد عبارة "مصر دولة سنّية بهوى شيعي"، وهذا ما يمكن أن يوظّف أداة منخفضة التكاليف خارجيا، لكنه يحمل حساباتٍ أمنيةً حذرة داخليا، تتخوّف من استخدام للصراع المذهبي في تحقيق نفوذ إيراني.