مصر والصندوق ومفارقات الثروة والاستدانة
أنهكتنا الأرقام، ونحن نلاحق محطّات المنزلق الذي يتحرّك عليه الاقتصاد المصري. .. ومن بين ما ينقص تحليلات (قادحة ومادحة معًا) كثيرة دلالات الأرقام. وخلال 2022، نُشرت بالتتابع أرقام مدّخرات الشعبين، الأميركي والألماني، ثم نشرت أرقام مدّخرات العالم العربي كله. وتكشف المقارنة بين المشاهد الثلاثة المسكوت عنه في أزمة عدّة اقتصادات عربية، أولها الاقتصاد المصري، وثمّة "فكرة معكوسة" أصرّت عليها نخب تحرّر وطني عربية، فقادت دولًا، في مقدمتها الدولة العربية الأكثر سكانًا، إلى "إدمان الاقتراض"، بحسب تعبير "سي أن أن".
المشهد الأول ألماني، (دويتشه فيلله)، حيث كشفت دراسة أجراها معهد "آر إس إف" أن ألمانيا الأولى في أوروبا من حيث حجم مدّخرات الأفراد، حيث وصلت في عام 2020 إلى ما يقارب 16.4 تريليون يورو، وجاءت في المركز الثاني فرنسا بـ 12.6 تريليون يورو، ثم بريطانيا وإيطاليا بـ 10 تريليونات يورو لكل دولة، وبإجمالي مدّخراتٍ في القارّة يبلغ 69 تريليون يورو هي مدّخرات ما يزيد قليلًا عن نصف مليار نسمة. والمشهد الثاني، أميركي، حيث كشفت بيانات بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (10 يونيو/ حزيران) أن ثروات 330 مليون مواطن أميركي هي 149.3 تريليون دولار. المشهد الثالث عربي، حيث كشف اتحاد المصارف العربية، قبل أيام، أن حجم أصول البنوك العربية 4.4 تريليونات دولار، ما يعني أن هذا الرقم هو مدّخرات ما يزيد عن 430 مليون إنسان.
"الفكرة المعكوسة" المشار إليها سلفًا أن الشعوب، أفرادًا وجماعات، سفيهة وقاصرة، ولا يمكن الاعتماد عليها في تحقيق معدّل "ادّخار وطني"، يكفي لتحقيق معجزة اقتصادية. وعليه، يجوز (بل يجب) حرمان المحكومين من مدّخراتهم بكل الوسائل، ووضعها تحت يد نخبةٍ بيروقراطية، وحدها تستطيع تحقيق هذه المعجزة. والمحصلة أن مدّخرات الشعوب الأوروبية تقترب من 70 تريليون يورو، ومجموع مدّخرات الأميركيين يقترب من 150 تريليون دولار. ومن المؤكّد أن عدد السكّان ليس السبب الوحيد للمسافة بين الواقع الاقتصادي للعرب والأميركيين والأوروبيين، وأن الفجوة التكنولوجية بينهم سببٌ رئيس، لكن من بين الأسباب أيضًا أن النظام العام (بشقّيه السياسي والاقتصادي) هناك يعترف بحقائق الاجتماع السياسي التي تتّسق مع السنن الكونية وحصاد تجارب الأمم التي نجحت في تحقيق التقدّم المستدام، بينما النظام العام عندنا (بشقّيه السياسي والاقتصادي) يصرّ على إنكار هذه الحقائق. ومنذ ما يزيد عن 70 عامًا، تبحث نظم عربية، بمنتهى الدأب، عن "دليل على صحّة الخرافة". وأولى هذه الحقائق المؤكّدة أن الدولة لا يجب عليها أن "تحقّق" معجزةً باستخدام عصا السلطة، بل عليها أن توفّر "الشروط الموضوعية" التي تمكّن المحكومين من صنع المعجزة. وكل سياسات اقتصادية تؤدّي إلى إفقار المواطن سباحة ضد التيار، وهي بدل أن تحفّز على التقدّم "تعيقه".
ما لم تقرّر مصر، بشجاعة، جعل المال في يد مالكيه الحقيقيين فقد يصل المنزلق إلى نقطة اللاعودة
وعندما تقرّر السلطة أن تحقّق ما تعتبره "معدلات ادّخار وطني" ترضيها، عبر إفقار المحكومين، تجد نفسها مضطرّة للاستدانة من الخارج. وعندئذٍ تكون قد حفرت لنفسها الحفرة بيديها، وصانع القرار الذي يرى المحكومين دائمًا متهمين بسوء السلوك الإنجابي والاستهلاكي والادّخاري و... ... ...، يخطو باختياره نحو الارتهان لمُقرض لديه "أيديولوجية اقتصادية" شاملة، يفرضها على المقترضين. وكلما أوغلت دولة في الاستدانة من الصندوق كُبِّلت إرادة الحاكم والمحكوم معًا بقيود تغيّر بنية الاقتصاد والمجتمع معًا. وبعض منظّري النيوليبرالية التي يسوقها الصندوق مقتنعون بأن الاقتصاد يجب (بالتدريج) إبعادُه عن منطق "صندوق الانتخابات"، معتبرين أن السياسيين يتملّقون الناخبين بوعودٍ بمنافع اقتصادية، بهدف الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، وأن الدول ينبغي أن تخضع لقيودٍ ملزمةٍ جميعها من معطيات النيوليبرالية. ومن غير المستبعد أن يكون هناك صانعٌ يلجأ إلى الصندوق، عمدًا، ليبرّر تطبيق سياسات اقتصادية تتّصف بالقسوة على المحكومين، ويفضّل أن تُطبَّق بوصفها "إكراهات" تفرضها منظمة دولية، مع تأكيد أنها لا مفرّ منها!
الفهم المعكوس لمعنى ثروة الدولة أحد أخطر أصول الداء، والمحكوم هو الظهير الحقيقي للاقتصاد الوطني لا "الخارج"، والاقتصادات العالمية الأكبر، وفي مقدمتها الأميركي، تستمد عافيتها من مصادر من أهمها أن مدّخرات المواطنين السند الأقوى للاقتصاد. وما لم تقرّر مصر، بشجاعة، جعل المال في يد مالكيه الحقيقيين فقد يصل المنزلق إلى نقطة اللاعودة.