04 نوفمبر 2024
مصر وتركيا .. وليبيا
لنتخيّل أن قواتٍ تركيةً مجوْقلةً (منقولة بالجو)، وبأعداد كبيرة، انتشرت في العاصمة الليبية، طرابلس، وحواليْها، وشرعت في دكّ مليشيات اللواء المتمرّد، خليفة حفتر، هل سيفعلها الحاكمون في القاهرة، ويُسارعون إلى إصدار الأوامر إلى سلاح الجو المصري، ليضرب هذه القوة التركيّة؟ الجواب: لا. .. ببساطةٍ، لأن نظام عبد الفتاح السيسي لن يجرؤ على ذلك، لأنه يكتفي بإشاعة الأوهام عن نفسه، بكلامٍ كبيرٍ يستنزف فيه نفسَه، ويشيع فيه (الكلام) خرافاتِه عن الأمن القومي لمصر الذي تهدّده تركيا في ليبيا. وإذا حدث سيناريو تدخلٍ تركيٍّ قتالي، فإن القاهرة لن تفعل غير الذي تستمرّ فيه، أي الدعم التسليحي السخيّ لمليشيات حفتر ومرتزقته، مع الإسناد المعلوم من دولة الإمارات. ولا يفتئت واحدُنا على الحقيقة عندما يرمي الحكم الراهن في مصر بما فيه، ومما فيه أنه فاشلٌ في كل شيء، فإثيوبيا، وهي مجرّد مثال، تؤكّد هذا، عندما تواصل بناء سد النهضة بالكيفيات التي خطّطت بها مشروعها هذا، وهي تضيّع الوقت في لتٍّ وعجنٍ فارغيْن في جولات تفاوضٍ متتابعةٍ مع الجانب المصري الركيك الأداء فيها.
افتعال البطولات على الشاشات التلفزيونية المصرية إيّاها، تجاه تركيا ورئيسها أردوغان، هو الأداء الوحيد الذي يواجِه فيه الحكم في القاهرة ما يراه تجرّؤا تركيا على الأمن القومي المصري في ليبيا، فيما الأمر ليس كذلك، فأنقرة تقول إن دعمها السياسي والعسكري لحكومة الوفاق، والمجلس الرئاسي، في طرابلس، إنما لمصالحها الخاصة، وحساباتها، واعتباراتها الأمنية. ولا دليل أبدا على أنها تتعمّد الإضرار بمصر، بل إن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي أقامتها مع طرابلس تعطي لمصر حيّزا بحريا أوسع مما توفّر لها في اتفاقيتها مع اليونان وقبرص. ولمراقبٍ متابع، متحرّر من السخافات الدعائية إياها، أن يمضي أبعد في هذا الأمر، ويرى أن مصالح مصر الاستراتيجية، وكذلك الراهنة، تتحقق بعلاقاتٍ هادئةٍ مع تركيا. وفي الوسع أن يُقال إن الحكم في القاهرة يحتاج أن يكون لديه عقل سياسي يدرك، عندما يُجري حسابات المنافع والمكاسب في مقابل حسابات الخسائر، إن علاقاتٍ من طراز آخر بين مصر وتركيا أجدى من حالة التشاتم الراهنة، علاقاتٍ تحصر مساحات الخلافات في حيّزها. والنمو المضطرد في التبادل التجاري بين البلدين، كما تكشف عنه أرقامٌ منشورة في بياناتٍ يعلنها الجانبان، يفيد في تدعيم هذه الأطروحة التي يوضحها نجاح موسكو وأنقرة في تطوير علاقاتهما السياسية والاقتصادية، فيما مساحاتُ الخلاف بينهما غير قليلةٍ في غير ملف.
يبدو هذا الكلام صعب التحقق، لكنه ليس مستحيلا، وفي الوقت نفسه، يحتاج إلى شيء من الخيال، مع مقادير من العقل، والعقل تحديدا هو الأكثر غيابا، وإنْ تباينَ منسوبُ هذا الغياب بين الذي في القاهرة والذي في أنقرة. والحادث في ليبيا يوجِب على نظام السيسي أن يرى مصلحة مصر، لا أن يبقى مسكونا بأشباح الإخوان المسلمين والرطانات إيّاها عن الإرهاب ومحاربته. كل الحقّ في القول إن أول ما تحتاج إليه ليبيا هو الشروع في بناء جيشٍ مهنيٍّ ووطني موحّد، ما يتطلب الخلاص النهائي من ظاهرة خليفة حفتر، وكذلك حلّ المليشيات والفصائل الموالية لحكومة فايز السرّاج في طرابلس، وهذا ليس سهلا ولا هو في متناول اليد، وإنما يتطلب جهدا جماعيا مضنيا. وتحتاج ليبيا أيضا حوارا داخليا موسّعا منفتحا على كل الحساسيات القبلية والسياسية، للعبور منه إلى عملية انتقالٍ سياسي، يفيد مما يسّره اتفاق الصخيرات الذي أثبتت التجربة والوقائع إخفاقَه في إنقاذ ليبيا من التذرّر والانكشاف، انتقال سياسي يفيد من التدابير التي كان مبعوث الأمم المتحدة، غسّان سلامة، يعمل على تهيئتها، لمّا كان يعدّ لحوار ليبي في غدامس، كان متوقعا أن ينعقد في إبريل/ نيسان 2019، غير أن خليفة حفتر، مدعوما من مصر والإمارات والسعودية، طوّق تلك المحاولة، وعمدَ إلى إعلان "ساعة صفر" لاقتحام طرابلس، فأدخل ليبيا في طوْرها الذي نرى من احترابٍ، ضحيتاه ليبيا وشعبُها.
ادّعى نظام السيسي حيادا في المشهد الليبي، وها هو يكذب أيضا عندما يشيع أن مصر مهدّدة من تركيا في ليبيا، غير أنه، في الأمريْن، كما في كثيرٍ غيرِهما، يُضحك الآخرين عليه، عندما يدلّل، هو بنفسه، على قلّة حيلته، ويتوسّل شرب حليب السباع، في الأثناء، في حبسِه صحافيين مصريين وأتراكا في اقتحام مكتب وكالة أنباء تركية، قبل أن يضطر إلى الإفراج عنهم، بعد أن قالت الرئاسة التركية إن على "النظام الانقلابي" في مصر (بتعبيرها) أن يُفرج عنهم.
يبدو هذا الكلام صعب التحقق، لكنه ليس مستحيلا، وفي الوقت نفسه، يحتاج إلى شيء من الخيال، مع مقادير من العقل، والعقل تحديدا هو الأكثر غيابا، وإنْ تباينَ منسوبُ هذا الغياب بين الذي في القاهرة والذي في أنقرة. والحادث في ليبيا يوجِب على نظام السيسي أن يرى مصلحة مصر، لا أن يبقى مسكونا بأشباح الإخوان المسلمين والرطانات إيّاها عن الإرهاب ومحاربته. كل الحقّ في القول إن أول ما تحتاج إليه ليبيا هو الشروع في بناء جيشٍ مهنيٍّ ووطني موحّد، ما يتطلب الخلاص النهائي من ظاهرة خليفة حفتر، وكذلك حلّ المليشيات والفصائل الموالية لحكومة فايز السرّاج في طرابلس، وهذا ليس سهلا ولا هو في متناول اليد، وإنما يتطلب جهدا جماعيا مضنيا. وتحتاج ليبيا أيضا حوارا داخليا موسّعا منفتحا على كل الحساسيات القبلية والسياسية، للعبور منه إلى عملية انتقالٍ سياسي، يفيد مما يسّره اتفاق الصخيرات الذي أثبتت التجربة والوقائع إخفاقَه في إنقاذ ليبيا من التذرّر والانكشاف، انتقال سياسي يفيد من التدابير التي كان مبعوث الأمم المتحدة، غسّان سلامة، يعمل على تهيئتها، لمّا كان يعدّ لحوار ليبي في غدامس، كان متوقعا أن ينعقد في إبريل/ نيسان 2019، غير أن خليفة حفتر، مدعوما من مصر والإمارات والسعودية، طوّق تلك المحاولة، وعمدَ إلى إعلان "ساعة صفر" لاقتحام طرابلس، فأدخل ليبيا في طوْرها الذي نرى من احترابٍ، ضحيتاه ليبيا وشعبُها.
ادّعى نظام السيسي حيادا في المشهد الليبي، وها هو يكذب أيضا عندما يشيع أن مصر مهدّدة من تركيا في ليبيا، غير أنه، في الأمريْن، كما في كثيرٍ غيرِهما، يُضحك الآخرين عليه، عندما يدلّل، هو بنفسه، على قلّة حيلته، ويتوسّل شرب حليب السباع، في الأثناء، في حبسِه صحافيين مصريين وأتراكا في اقتحام مكتب وكالة أنباء تركية، قبل أن يضطر إلى الإفراج عنهم، بعد أن قالت الرئاسة التركية إن على "النظام الانقلابي" في مصر (بتعبيرها) أن يُفرج عنهم.