مظلوميّات غزّية

04 أكتوبر 2024
+ الخط -

اكتمالُ عام، بعد أيام، على بدء الإبادة الإسرائيلية في غزّة، مناسبةٌ، لنا أهل الصحافة، لاستعادة وقائع تتابعَت في هذا العام، مذبحةً تلو أخرى، ووجوهاً لمأساةٍ إنسانيةٍ كارثيةٍ صار عليها الناس هناك، وصلفاً بعد صلفٍ استخفّ فيه العدو بكل قانونٍ وقراراتٍ أمميةٍ وإجراءات محاكم دوليةٍ ونداءاتٍ وبياناتٍ من الشرق والغرب. غير أنّ لنا، ولغيرِنا، أن نستعيد من منسيّاتنا ما ظلّ الغزّيون يُعامَلون به، عربياً، وفلسطينياً من قبل ومن بعد، بانتقاصٍ، وبما لا يجوز اجتماعياً وسياسياً ووطنياً (وأخلاقياً) اقترافُه. وليست سوى واحدةٍ من حزمة شواهد، تُصادِق على هذا القول، لصوصيّة الابتزاز المريعة التي تسلكها السلطات المصرية عندما ترهن خروج أيِّ غزّيٍّ بموافقة المحتل، ثم بتدفيعه خمسة آلاف دولار لشركة أمير الحرب إياه، إبراهيم العرجاني، من دون أن يعقّب بشيءٍ رئيسٌ لمنظّمة التحرير الفلسطينية. واللصوصيّة هذه موصولةٌ بالفظاظة العتيدة التي تتعامل بها الأجهزة المصرية مع الغزّيين، على غير مستوىً وفي غير شأن. ولا يُنسى أن اللاجئين من غزّة في الأردن لم يُحرِزوا الجنسية الأردنية، على غير حال اللاجئين والنازحين من الضفة الغربية، لأسبابٍ طويلة، من دون اعتبارٍ لعقود إقامتهم وعيشهم في البلد. وهذا مقطع مفردٌ من مظاهر تمايزاتٍ غير قليلة ظلّت تخصم من اعتباريّة ناس غزّة، مواطنين أو مقيمين في عدّة بلاد عربية، العراق ومصر مثليْن. وليس يُنسى أن الغزّي المقيم في رام الله (أو غيرها في الضفة الغربية) يحتاج إذناً (ترخيصاً) يُجيز له التحرّك في محافظات الضفة الغربية.
لا يغالي واحدُنا إذا قال إن الكذب فادحٌ في إنشائياتٍ فلسطينيةٍ غزيرةٍ تمحض أهل غزّة فائضاً من الحب والإجلال. ومن دلائل كثيرة على فراغ أزعوماتها أن عشرة فقط من غزّة من بين 120 عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح، يقيم خمسةٌ منهم في القطاع. أما الغزّيون في اللجنة المركزية للحركة، بعد فصل ناصر القدوة، فأربعةٌ من 20. وفي المجلس المركزي لمنظّمة التحرير، وأعضاؤه أزيد من 150 (لا أعرف العدد بالضبط)، أقلّ من 20 بينهم من غزّة. وإذا أراد من يريد أن يرى كلاماً كهذا جهوياً مستنكراً فليفعل، إلا أن الأدْعى إلى التملي فيه أن شعوراً عميقاً وعتيقاً يقيم في حشايا أهل غزّة، البعيدة عن الأقرباء واللصيقة بالأعداء، في قول محمود درويش، أن العالم كله يظلمهم، وفي القلب منه الحركة الوطنية الفلسطينية. ... مثلاً، تُحرم غزّة من رئاسة أي نقابة، الصحافيين والأطباء والمحامين وغيرها، وقد حدّثنا من حدّثنا أن أعضاءً من الغزّيين المنتسبين إليها حاضرون في أماناتها العامة، ويحدُث أن يكون نائب النقيب من غزّة، غير أن وفاة النقيب أو استقالته لا تعبّد طريقاً لهذا النائب الرئاسة (ثمّة دليلٌ على صحّة هذا لا أستحسن ذكره). ومن مفارقاتٍ في الموضوعة هذه أن أعضاء "فتح" في هذه النقابات من غزّة هم من يمنحون الحركة الأغلبية التي تؤهلها لرئاسة النقابة، ولكن أياً منهم لا يُجاز له أن يصير رئيساً. وباستثناء انتصار الوزير (أم جهاد) التي ترأس اتحاد المرأة الفلسطينية، لا غزّيَّ يرأس أياً من الاتحادات الـ12 في منظّمة التحرير (وهي اتحاداتٌ بلا فاعلية ومتخشّبة بالمناسبة). ولمّا كانت لشرطةٍ تنتسب إلى السلطة الفلسطينية سلطتها في القطاع، قبل الذي صار، كان قائدُها من الضفة الغربية، كما كل قادة الأجهزة الأمنية والشُّرطية والعسكرية.
كل حديثٍ جهويٍّ بمثل هذا التعيين والتحديد سيئ، ويُكابد الواحد منّا إذا ما خاض فيه، غير أن الأسوأ التعامي المديد والكثير الذي يقترفه الفلسطينيون، في حركتهم الوطنية ومؤسّساتهم، عن حصصٍ غير لائقة لناس غزّة فيها. والأسوأ أيضاً أن يُظنّ أن أرطال مفردات الجزع والتعاطف والأسى، وكلها مشاعر صادقة، أنفقناها في عام ينقضي، تغيّب أن تمييزاً مُجحفاً مورس ولا يزال بحقّ أهل غزّة، أينما حلّوا وأقاموا وارتحلوا، وأنّ من عاديّ الأمور وبديهيّاتها أن يستشعروا مظلوميّاتٍ ثقيلة تقيم فيهم، بصمتٍ أحيانا وبغضبٍ أحيانا أكثر.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.